ناجي العلي اكثر من 15 الف لوحة محفورة بالوجع…وفي ضمير الثورة
الدنيا نيوز – دانيا يوسف
قلت له: أريد أن أكتب عنك. تخيلته يسرح بنظره بعيدا، وساد الصمت إلاّ من حفيف أجنحة الفراشات وكأنها آتية من أشجار الصبار المنسية حول دروب قرية الشجرة. رمقني من بين مئات الصفحات التي قرأتها عنه وقال: “دعيني أختصر أمامك الطريق، سأقدم نفسي كما أرغب، باللونين الأبيض والأسود وبعدها سأترك لك المجال لتضيفي ما تشائين.
وكيف لك أن تقدّم نفسك؟
“اسمي ناجي العلي، ولدت بين طبرية والناصرة، في قرية الشجرة بالجليل عام 1937. أخرجني الصهاينةمن هناك عام 1948 إلى مخيم عين الحلوة في لبنان.أذكر هذه السنوات التي عشتها في فلسطين أكثر مما أذكره من بقية عمري، أعرف العشب والحجر والظل والنور، لا تزال فلسطين ثابتة في محجر العين كأنها حفرت حفرا، لم يخرجها كل ما رأيته بعد ذلك.“
هذا هو ناجي سليم حسين العلي الفنان الفلسطيني الذي نجح بامتياز في صياغة الوعي والذاكرة الفلسطينية. ومن رماد المأساة والنكبة، نفض الغبار عن رموشه وامتشق طبشورته وراح يخربش عواطفه، عواطف شعب بكامله. لم يكن بحاجة لأي لون، فالمأساة كانت هائلة ومروّعة إلى الدرجة التي لم تكن تحتاج معها إلى أي لون. فقط الأسود والابيض…
“المعادلة بسيطة وحارقة: أن تكون حرا أو لا تكون، أن تكون إنسانا أو لا تكون، أن تكون مع فلسطين أو لا تكون. لا أقبل بثلاثة أرباع الحلول، أو أنصافها أو أرباعها…”
تساءلت وأنا أتأمل كلماته المحفورة بالوجع.كيف لصبي لم يتجاوز الحادية عشرة من عمره شُرِّد وهُجِّر من وطنه الى مخيم أن يعبّر عن معاناته؟ فأجاب:“كنت صبيا حين وصلنا زائغي الأعين، حفاة الأقدام إلى مخيّم عين الحلوة. كنت صبيا وسمعت الكبار يتحدثون: الدول العربية. الإنجليز. المؤامرة. كما سمعت في ليالي المخيم المظلمة شهقات بكاء مكتوم، ورأيت من دنت لحظته يموت وهو ينطلق إلى الأفق في اتجاه الوطن المسروق. ألتقطت الحزن بعيون أهلي، وشعرت برغبة جارفة في أن أرسمه خطوطا عميقة على جدران المخيم حفراً أو بالطباشير حيثما وجدت مساحة شاغرة“.
درس ناجي العلي في مدرسة ” اتحاد الكنائس المسيحية ” حتى حصوله على شهادة السرتفيكا اللبنانية. ولما تعذّر عليه متابعة الدراسة اتجه للعمل في البساتين. لكن بعد مدة، ذهب إلى طرابلس ليدرس في أحد مهنياتها. وبعدما نال شهادة دبلوم في الميكانيك،سافر إلى السعودية وأقام فيها سنتين يشتغل ويرسم أثناء أوقات فراغه.
عام 1959 عاد ناجي العلي إلى لبنان وانتمى الى حركة القوميين العرب، وأصدر مع بعض رفاقه في الحركة نشرة سياسية بخط اليد تدعى “الصرخة”.
دخل الأكاديمية اللبنانية للرسم عام 1960 لمدة سنة، إلا أنه لم يداوم إلا شهراً أو نحو ذلك، وما تبقى من العام الدراسي أمضاه في ضيافة سجون الثكنات اللبنانية.
بعد ذلك، ذهب إلى مدينة صور ودرس الرسم في الكلية الجعفرية لمدة ثلاث سنوات.
سنة 1962،التقى ناجي العلي مع الأديب والكاتب الفلسطيني غسّان كنفاني…لقاء غيّر مجرى حياته حيث أطلعه على عدد من رسومه . وقد لمس كنفاني فيها موهبة ناجي وحماسته فنشر له رسماً في مجلة “الحرية“ التي كانت تصدر عن حركة القوميين العرب. شكلّت له تلك اللحظة النقلة الأهم في حياته وتعاطيه مع قصة الرسم. بعد عامين من ذاك اللقاء سافر ناجي العلي الى الكويت ليعمل رساماً ومخرجاً وكاتباً في مجلة “الطليعة“ الكويتية لسان حال القوميين العرب وقد استُقبل العلي بحفاوة في الطليعة التي أضحت مدرسته الأولى ومنبره الأسبوعي لمخاطبة قرائه.
في الكويت وتحديدا عام 1965 ولدت شخصية حنظلة.أعود الى أوراقي مع ناجي العلي وأسأله عن سر حنظلة فيجيب: “ولد حنظلة في العاشرة من عمره وسيظل دائما في العاشرة، ففي ذلك السن غادرت الوطن وحين يعود حنظلة سيكون بعد في العاشرة ثم سيأخذ في الكبر بعد ذلك. قوانين الطبيعة المعروفة لا تطبق عليه، إنه استثناء. لأن فقدان الوطن استثناء وستصبح الأمور طبيعية حين يعود إلى الوطن. حنظلة هو أيقونة روحي من السقوط كلما شعرت بشئ من التكاسل، إنه البوصلة التي تشير دائماً إلى فلسطين“.
شخصية حنظلة ظلّت تزين زوايا رسومه على مدى أكثر من عشرين عاماً، مديراً ظهره للقارئ، وكأنه يطالع الأحداث ويعلن احتجاجه عليها. لكنه في لحظات نادرة كان يتحول الى شخص فاعل، يعلق على الأحداث أو يرمي حجراً أو يضمّد جرحاً. الى جانب حنظلة استخدم ناجي العلي رموزاً أصبحت لصيقة بفنه وتجربته الإبداعية منها شخصية المرأة الفلسطينية التي اسماهاناجي “فاطمة” في العديد من رسومه.
وفاطمة هي شخصية لا تهادن، رؤياها شديدة الوضوح فيمايتعلق بالقضية وبطريقة حلها، بعكس شخصية زوجها الذي ينكسرأحيانا.
مقابل هاتين الشخصيتين تقف شخصيتان أخرتين، الأولىشخصية السمين ذو المؤخرة العارية والذي لا أقدام له ممثلًا بهالقيادات الفلسطينية والعربية المرفهة والخونة الانتهازيين.
وشخصية الجندي الإسرائيلي، طويل الأنف، الذي في أغلبالحالات يكون مرتبكا أمام حجارة الأطفال، وخبيثا وشريرا أمامالقيادات الانتهازية.
انتقل ناجي العلي عام 1969 الى جريدة “السياسة“ الكويتية، وبقي فيها رسام كاريكاتير حتى عام 1974 عندما عُرض عليه العمل في جريدة “السفير“ اللبنانية التي كانت في بداية انطلاقتها.
شهد ناجي العلي العديد من الاعتداءات الاسرائيلية على لبنان بما في ذلك الغارات الجوية على مواقع المقاومة الفلسطينية في جنوب لبنان.ومع استمرار المقاومة،قامت اسرائيل باجتياح واسع للبنان حتى وصلت بيروت عام 1982.
أراه يطل أمامي ليختصر هذه المرحلة التي ظهر خلالها مقاوما بطريقته الخاصة.فيقول:
“كنت في صيدا اثناء الغزو الاسرائيلي،واجهت نفس ما واجهه الناس من رعب وخوف وعشت أيام القصف وغارات الطيران،رأيت الدماء والقتلى بأم العين.وبقيت في صيدا لمدة شهر بعد احتلالها،وفي تلك الأيام العصيبة لم أرسم،وحتى لو استطعت فانني غير قادر على توصيل رسوماتي الى الصحيفة التي أعمل بها”.
حمّل ناجي في رسوماته سقوط صيدا وجنوب لبنان بأيدي القوات الاسرائيلية لما أسماه التخاذل العربي والتآمر على تصفية المقاومة وتهيئة الأجواء لبدء التسويات السياسية التي وقف ضدها طول حياته.
وقرّر اختراق الحصار المفروض على بيروت والذهاب اليها برغم المخاطر حتى وصل الى جريدة السفير. وانخرط مجددا في الرسم وحاول بريشته رفع معنويات المقاومين والمدافعين عن بيروت ومقاومة الحصار الذي استمر ثلاثة أشهر. في هذه الفترة وتحديدا في نهايتها،أصيب ناجي العلي بانتكاسة نفسية مع سماعه عن بدء مفاوضات غير مباشرة بين منظمة التحرير الفلسطينية واسرائيل عبر وسطاء غربيين توطئة لخروج قوات المنظمة المقاتلة ورحيلها عن لبنان: “عندما بدأ الرحيل ومع أول سفينة غادرت الميناء،رسمت فدائيا يترك السفينة الراحلة ويسبح عائدا الى الشاطئ وهو يقول:اشتقت لبيروت.”
بين عامي 1983 و 1985 غادر ناجي العلي الى الكويت وعمل في صحيفة “القبس“ حيث نشر فيها مجموعة من أقسى الرسوم النقدية تناولت القيادات الفلسطينية. وظلّ يهاجم كل من يبتعد خطوة عن فلسطين الوطن والمعاناة والحلم: “أنا اعرف خطاً أحمر واحداً, انه ليس من حق أكبر رأس أن يوقع وثيقة اعتراف واستسلام لإسرائيل. قضيتنا مع هذا الكيان هي قضية مصيرية وتاريخية، بأي حق يرضون بالتنازل عن حق لا نملكه نحن فقط، بل تملكه كل الأجيال الفلسطينية، ليتحدثوا عن المفاوضات والمؤتمرات والدولة الفلسطينية ماحلا لها الحديث، وهم يعرفون أنه لا يوجد نظام عربي واحد يتمنى وجود دولة فلسطينية حرة وديموقراطية. وأنا لا أقول بأن تحرير فلسطين مهمة الشعب الفلسطيني وحده، هذا وهم، تحرير فلسطين مرهون بالشعوب العربية، والأنظمة الحالية تعتبر نفسها غير معنية، هكذا أفهم الصراع وشروط هذا الصراع هو أن نصلب قاماتنا كالرماح ولا نتعب”.
وبسبب ضغوط بعض القيادات الفلسطينية السياسيّة، أُجبر ناجي العلي على مغادرة الكويت الى لندن حيث عمل هناك فيصحيفة “القبس الدولي“. وخلال هذه الفترة بقي وفياً بصرامة نادرة لخطه السياسي النقدي الذي لا يقبل المساومة ولا المناورة.
في الأعوام الأخيرة، أصبحت أغلب سياسات القياداتالفلسطينية وتصريحاتها تحت مجهر ناجي الكاريكاتيري في إدانة لا تقبل التأويل. لذا صبّ غضب رسومه على هذه القيادات، فصوّرهم رجالاً متكرشين تحوّلت كوفيتهم الفلسطينيّة إلى قبعة أمريكية أو ربطات عنق أنيقة، فيما طبعت على أجسامهم أرقام القرارات الدولية التي تعترف بالعدو الصهيوني وباحتلاله أرض فلسطين.
في هذا الوضع، راحت أكثر من جهة فلسطينية سياسية توصل إليه الرسائل كي يخفف من نقده، فلم يستجب بالطبع.
صبيحة الثاني والعشرين من شهر تموز\يوليو عام 1987، وأثناء توجه ناجي العلي إلى مقر عمله في مدينة لندن، اقترب منه رجل مجهول مطلقاً النار على رأسه. كانت إصابة ناجي العلي بليغة، وبقي في الغيبوبة مدة 38 يوماً ليفارق الحياة في 29 آب\أغسطس من العام ذاته. أثارت عملية الاغتيال الكثير من اللغط، ووجهت أصابع الاتهام الى جهات عديدة أولها الموسادالإسرائيلي والثانية منظمة التحرير الفلسطينية كونه رسم بعضالرسومات التي تمس القيادات آنذاك.
نشر العلي أكثر من 15 ألف لوحة كاريكاتيرية طيلة حياته الفنية. وقد شاركت رسومه في عشرات المعارض العربية والدولية، وصدر له ثلاثة كتب ضمت مجموعة من رسوماته المختارة، وكان يتهيأ لإصدار كتاب رابع لكن الرصاص الغادر حال دون ذلك. وقد حصلت أعمال ناجي العلي على الجوائز الأولى في معرضي الكاريكاتير للفنانين العرب أقيما في دمشق في سنتي 1979 و1980، وحاز كذلك على جوائز كبرى عدة في معارض دولية وعربية، كما انتُخب أميناً عاماً لاتحاد رسامي الكاريكاتير العربي إضافة إلى كونه عضواً مؤسساً في الاتحاد العام للفنانين التشكيليين الفلسطينيين وعضواً في الأمانة العامة للاتحاد العام للكتاب والصحفيين الفلسطينيين.
في الثامن من شهر شباط\فبراير عام 1988 وصف الاتحاد الدولي لناشري الصحف في باريس ناجي العلي بأنه واحد من أعظم رسامي الكاريكاتير منذ نهاية القرن الثامن عشر، ومنحه جائزة “قلم الحرية الذهبي“ ليغدو أول رسام وصحافي عربي ينال هذه الجائزة. وقد اختارته صحيفة “اساهي“ اليابانية واحداً من بين أشهر عشرة رسامي كاريكاتير في العالم.
غيّب الموت ناجي العلي وبقي “حنظلة” الفاعل والمحرض، الشاهد والقاص، الضمير الحي. فشلت عملية اغتيال ناجي العلي عندما استمرّت أفكاره تروي الوعي عند الجماهير المتابعة لها.
لم يحتمل ناجي العلي أشباه الساسة، أشباه الثوار، أشباه الأنظمة، وأشباه القادة. وهؤلاء كانوا يرتجفون أمام حنظلة الطفل المشاكس بملابسه الممزقة والمرقعة، فقد كان يذكرهم بعجزهم، وتآمرهم، وخياناتهم، جبنهم، والأهم هو أنه كان يحرّض دائما على النهوض والثورة. ولـمّا كان البعض يقطع يده، كانت في اليوم التالي تورق غصنا من ثورة. لماذا يا حنظلة كل هذا العناد؟ يجيب: “وماذا سأخسر؟ ملابسي المرقعة؟ أقدامي العارية؟ لقد جعلوني أخسر كل شيء، فلماذا أحترمهم؟! لا أملك سوى لساني، يدي، قدمي، كوفيتي… لم يبق شيء. أضاعوا فلسطين وأضاعوني. وما زالوا يكذبون. يواصلون خياراتهم ومساوماتهم البائسة وواقعيتهم الهابطة، ويريدونني أن أصمت! يساومون عليّ ويريدونني أن أبقى مكتوف اليدين، هذا مستحيل! لن يصمت حنظلة ولن يموت…“