في أسواق طرابلس عبق تاريخ ومتاحف حية وحرف إبداعية ومهن تراثية
“الدنيا نيوز” – دانيا يوسف
تعتبر طرابلس المدينة الاولى بثروتها التراثية على الساحل الشرقي للبحر المتوسط، وهي الثانية بآثارها المملوكية بعد القاهرة. وتمثل متحفا حيا يجمع بين الاوابد الرومانية والبيزنطية، والآثار الفاطمية والصليبية، والعمارة المملوكية والعثمانية.
انها مدينة متكاملة باحيائها واسواقها وازقتها المتعرجة المسقوفة. وتضم بين جنباتها اكثر من 160 معلما بين قلعة وجامع وخان وسوق وكتابات ونقوش وغيرها من المعالم الجمالية والفنية.
في اسواقها القديمة يتنشق المرء عبق التاريخ، ويتنسم روح الشرق، ويشاهد الصناعات والحرف المحلية المستمدة جذورها من الزمان الخالي.
نتجول داخل اسواقها الموغلة في القدم ونحاول قراءة التاريخ الذي يتجلى عريقا في حجارتها وسقوفها.
تتناهى الى اسماعنا اصوات الطرق… هذا الطرق أهم ما يميز سوق النحاسين التي تعد واحدة من اقدم الاسواق في طرابلس واكثرها اجتذابا للسياح. وفيها يمتزج عبير الماضي واصالته بنكهة الحاضر وفنه وجماله. يعتبر سوق النحاسين أحد أهم الأسواق العائدة الى العهد المملوكي، حيث نفذه المماليك منذ بداية حكمهم، أي الى ما هو أكثر من 700 عام. وقد أراد المماليك آنذاك تنفيذ مشروع ينظم الأسواق الطرابلسية ويجعلها متخصصة، وقد ضم سوق النحاسين حوالي 50 مصنعاً متخصصاً ببيع النحاسيات، وقد شهد فترة ازدهار كبيرة حيث كان من أهم الأسواق اللبنانية التي تعرف بصناعة النحاس، وتميز بجودته العالية وبذوقه الراقي..
واذا كانت الاسواق الاخرى تشهد في كل فترة ظهور باعة جدد، فان من ميزات سوق النحاسين وجود الحرفيين الذين ورثوا المهنة ابا عن جد… أبرز العائلات التي تداولت هذه المهنة هم طرطوسي وعزّو وطلحة وحسون… غير أنهم لم يصمدوا طويلاً في السوق ما عدا آل الطرطوسي الذين حافظوا على هذه المهنة وتوارثوها جيلاً بعد جيل.
هذه المهنة ربما تكون واحدة من مهن قلائل لم تزحف اليها عجلة التكنولوجيا. فالنحاسون في هذه السوق يصرون على ان اصابعهم هي اداة الابداع الوحيدة لديهم.
اذا من بين هذه الطرقات التي تشكل نغمة موسيقية غير متجانسة على طول ساعات العملالتي تعد العلامة الفارقة لهذه السوق، تخرج كل يوم مجموعة من الاشكال التراثية. ولا يقتصر العمل في النحاس على التصنيع، فهناك ايضا النقش والحفر اللذان يعتبران فنا قائما بذاته.
سوق النحاسين تحتفظ بزبائنها ممن يبحثون عن الاصالة والتراث كما تحتفظ بهذه الصناعات اليدوية التي تتلألأ مثل كنوز من الذهب وسط عالم ساحر جميل تفوح منه رائحة الاصالة وجذور هذه الحرفة التي لا تزال تعبر عن سر من اسرار الجمال والفن
نتابع جولتنا في اسواق طرابلس القديمة التي تزدحم بعشرات المتسوقين لشراء البضائع المصنوعة يدويا…
هنا سوق الخياطين… هناك قسم الخزفيات… للسجاد ايضا حصة في هذه السوق التراثية… نحتار في اي الاتجاهات ننظر… وفجأة تفوح رائحة مميزة من احد الازقة تجذبنا وتدعونا للدخول. تذهلنا الالوان ولا نكاد نلتقط انفاسنا حتى يقبل رجل طيب الملامح قائلا لنا: اهلا وسهلا بكم في خان الصابون.
يقول بعض المؤرخين ان الحرفيين الطرابلسيين هم اول من اخترع الصابون البلدي وكان لهم الفضل في تطوير هذه الصناعة.
“أجدادي كانوا أول من أدخل الصابون إلى فرنسا في القرن الرابع عشر، وتحديدا إلى مدينة مرسيليا حين كان الفرنسيون يشتهرون بقلة النظافة وعدم رغبتهم في الاستحمام”، هذا العرض التاريخي يقدّمه بدر حسون صاحب الخان مضيفا بأن ” هذه الصناعة التاريخية توقفت لاحقا لفترة طويلة، قبل أن أقوم بإحيائها وأورثها لأبنائي للمحافظة على هذا الارث العائلي القيّم”.
وعلى قاعدة ان “العطر يرضي الروح” يعمل حسون وأبنائه على انتاج الصابون “من زهور وأعشاب ونباتات طبيعية، وكل ما ننتجه يتواءم مع البيئة. فهناك الصابون العلاجي والفرنسيون أول من استخدم الصابون الطرابلسي للمعالجات الجلدية ـ والصابون الملكي، والصابون البلدي العشبي، والصابون العطري، والصابون الزيتي.”
ما شاهدناه في اسواق طرابلس القديمة اكبر من ان تعبر عنه الاقلام. هذا ايضا سوق الزجاج الذي يزخر بآلاف الاشكال المزخرفة بدقة ايادي حرفيين مهرة. ويتفق بعض العلماء ان العرب هم اول من ابتكر صناعة الزجاج وبشكل خاص الفينيقيين. لكن لا تزال لصناعته يدويا حيزا مهما يستقطب الاهتمام لكونه ارث شعبي متداول لا بد من الحفاظ عليه. كما دخلت عليه حرف يدوية اخرى كالزخرفة والنقش والحفر لانها تضفي على القطع الزجاجية قيمة جمالية واتقان بديع.
قبل ان تغادر هذه الاسواق تمر بسوق صناعة الجلود. يجلس الحرفيون المختصون بهذه الصناعة لساعات طويلة كي يحولوا المساحات الناعمة الى لون ذهبي او فضي… هنا يمكننا التفرج على ثريا تعمل على الزيت مستوحاة من العصر الاموي كما نعثر على المباخر والصواني فضلا عن القناديل الجلدية والثريات الشرقية التي تنم عن قدرة الفنان ومهارته.
نغادر اسواق طرابلس القديمة وقوس قزح الالوان التي تنطق به هذه الحرف لا يزال يتراءى امامنا. انه ارث لبنان الذي تناقلته الاجيال حفاظا عليه من الاندثار امام غزو الوسائل التقنية الحديثة.