“أخبار الدنيا” – دانيا يوسف*
عاش المنفى داخل الوطن لكنه حمل العراق إلى كل المنافي التي سكنها
جعلت النخلة رمزاً للوطن وللذات في آن معا. وصفك بعض الأدباء والصحفيين بالإنسان الهادئ والبعيد عن كل نزعة مشاكسة. من أنت أيها الكائن الأسمر النحيل الذي يختبيء خلف نظّارته لفرط حياءه ويتحسّس كرسيه قبل الجلوس؟
غائب طعمه فرمان: “اسمي غائب طعمة فرمان عراقي الهوية والهوى. ولدت عام 1927 في أحد أزقة بغداد القديمة والمثقلة دفتيه بالبيوتات الصغيرة المتلاصقة التي تعلوها “الشناشيل” الملوّنة والتي توفّر ظلاًّ يحتضن شقاوة الأطفال وعبثهم. هذا الظل أتاح لي ولأترابي كتابة أحلامنا على الجدران التي تآكل بعضها بفعل الهم الانساني الذي تنفثه صدور العابرين تنفيساً لعذاباتهم.”
ماذا بعد مرحلة الطفولة يا غائب طعمة فرمان؟
غائب طعمة فرمان:”لم تكن طفولتي سعيدة لأني أصبت بمرض التدرن الرئوي في سن مبكرة وسافرت فيما بعد الى القاهرة للعلاج ومتابعة الدراسة. وهناك تأثرت كثيرا بالحركة الادبية في مصر وحضرت مجالس أحمد الزيات وسلامة موسى ونجيب محفوظ في مقهى الاوبرا. كان الشعر يستهويني منذ الصبا فكتبت الكثير من القصائد وتعرفت بتلك الفترة بكل من بدر شاكر السياب وعبد الوهاب البياتي اضافة الى الشاعر الكبير محمد مهدي الجواهري إلا أنني تركت الشعر وبدأت أكتب القصة التي دخلت اهتمامي. عدت الى العراق وتخرجت من كلية الآداب ببغداد عام 1954.”
انتمى غائب طعمة فرمان الى صحيفة “الأهالي” صوت الديمقراطيين في العراق كمحرّر في شؤون الناس. وتعرّف من خلال عمله بالصحفي مدير تحرير الصحيفة “عبد المجيد الونداوي” الذي عرّفه بدوره بالقاص “عبد الملك نوري” والشاعر المتمرّد “حسين مردان” والشاب المصرفي “محمد حسين الهنداوي” الذين كوّنوا معه الأصوات الخمسة وخرج بروايته الشهيرة “خمسة أصوات” . لقد كانت “خمسة أصوات” بمثابة خمسة نداءات استغاثة أطلقها هؤلاء المبتلون بهمومهم الانسانية والابداعية وبشغفهم بالحياة التي تخبو حماسته بسبب العوز المادي أحياناً أو بسبب المثال السياسي الذي لم يحقق ما كانوا يحلمون به.
أعود لفرمان وأسأله عن تجربته الصحافية. الى أي حد أفادتك الصحافة في دنيا الأدب؟
غائب طعمة فرمان:”في الحقيقة أقول لك أن عملي في قسم “شكاوى الناس” في جريدة “الاهالي” ساعدني على معرفة أحوال بسطاء الناس ومشاكلهم والتي استخدمتها في قصصي ورواياتي لاحقا. وفي هذه الفترة صدرت مجموعتي القصصية الأولى “حصيد الرحى”.
اذاً بدأ فرمان حياته شاعرا ثم قاصا ثم صحافيا الى أن دخل عالم الرواية ليحقق قفزة نوعية في هذا النوع الأدبي.
لم يعرف غائب طعمة فرمان حياة الاستقرار في وطنه ويصح القول أنه عاش المنفى داخل الوطن مما دفعه لمغادرته الى سوريا ولبنان بحثا عن عمل. عاد إلى بغداد عند منتصف السبعينيات وبقي فترة قصيرة بعدها غادر إلى موسكو واستقر هناك.
يتفق أغلب الدارسين في حقول الأدب العراقي على أن البداية الفنية الحديثة للرواية العراقية كانت بصدور “النخلة والجيران” عام 1966 والتي أثارت اهتماماً واسعاً لدى النقاد العرب والعراقيين وكذلك الدارسين الأجانب وأعلنت عن مولد روائي عراقي من المستوى الرفيع.
أعود الى غائب طعمة فرمان واسأله عن سر النخلة والجيران فيجيب باختصار:
غائب طعمة فرمان: “في الحقيقة النخلة والجيران فكرت فيها في أواخر الخمسينيات وظلت تلازمني. عندما بدأت أكتب فيها تطورت الشخصيات والأحداث بحيث اني بقيت أكتب فيها دون أن أحس بمجرى الأحداث. وأعتبرها مساهمة مني لوطني العراق والذي هو جو طفولتي ولأني كنت أنقل صورة حية لذلك الجو فأنا أديت شيئا لوطني.”
بعد “النخلة والجيران” كرّت سبحة الروايات فكتب فرمان “المخاض” و”القربان” و”ظلال على النافذه” و”المرتجى والمؤجل” وغيرها. ووجه اهتمامه إلى كشف قاع المجتمع العراقي في ظروف الحرب العالمية الثانية. وقدم بانوراما أدبية- فكرية فنية غنية للواقع العراقي والشعبي بالذات في زمن الاحتلال البريطاني الأول للعراق وما أفرزه من تحولات ومظاهر اقتصادية- اجتماعية مثل السوق السوداء، الجرائم، البغاء، الفقر، الجوع، المرض، الأمية وأنواع الانتهاكات الأخرى.
في مطلع الستينيات بدأت حياة غائب طعمة فرمان في موسكو حيث خصصت له شقة من غرفة واحدة بالقرب من محطة مترو”الجامعة”. عاش في المهجر طوال ثلاثين عاما وهناك ارتبط اسمه أيضا بمهنة الترجمة.
يجمع من قرأ أعمال غائب طعمة فرمان على وجود ترابط وثيق بين عالم غائب وأعماله الروائية لأنها نتاج تجارب شخصية أو ذكريات ذاتية. الإحساس الذاتي بالغربة والحنين إلى الجذور العميقة للوطن والطفولة والماضي، ومنحى العودة إلى الماضي يعد من أهم المناحي في أعمال غائب طعمة فرمان، وغالبا ما يستخدم الروائي أسلوب الذكريات لتصوير الحنين.
تحدث الروائي الدكتور عبد الرحمن منيف وهو الذي عانى طويلا من الآم الغربة عن صديقه فرمان قائلا:”لا أعتقد أن كاتبا عراقيا كتب عنها كما كتب غائب طعمة فرمان، كتب عنها من الداخل في جميع الفصول، في كل الأوقات، وربما اذا أردنا أن نعود للتعرف على أواخر الأربعينيات والخمسينيات لابد ان نعود الى ما كتبه غائب.”
غائب طعمة فرمان الذي عشق أرض الوطن مات غريبا ووحيدا بعيدا عن شمس العراق قريبا من ثلوج سيبريا في 17 آب\أغسطس عام 1990 ودفن بضواحي موسكو.
كانت حياة غائب طعمة فرمان تمور بالعطاء ويصفه المفكر الراحل هادي العلوي قائلا:”غائب كتب الفصل المفقود من تاريخ الأدب في العراق . حدث هذا دون ضجيج لأن غائب لا يحب الطبول وينفرد من ضوضاء المجالس ولم يكن يعنيه أن يكرًم أو يقيًم، كانت جائزتهُ أن يكتب رواية يقرأها الناس، وهمه الوحيد أن يتواصل مع جمهوره، فجمهوره هو جائزته ووسامه!”