“جسر على نهر درينا”:ثلاثة قرون ونصف من عمر فتشغراد
الدنيا نيوز- دانيا يوسف
“إيفو أندرِيتش” Ivo Andrić روائي من “البوسنة والهرسك” في ضواحي مدينة تراﭭـنيك عام ألف وثمانمئة واثنين وتسعين.
عاش “أندريتش” مرحلة طفولته خلال سيطرة الإمبراطورية النمساوية-الهنغارية على بلده، ونشر أول قصيدة له حينما كان في التاسعة عشر من عمره. انضم في شبابه إلى إحدى التنظيمات القومية الثورية، ومع مقتل ولي العهد النمساوي عام ألف وتسعمئة وأربعة عشر، سُجن ثلاث سنوات قضاها في قراءة أعمال روائية وفلسفية. وبعد الحرب عمل في الترجمة والصحافة الأدبية، كما أكمل دراسته باللغة الصربيّة، وحصل على درجة الدكتوراه في تاريخ الثقافة البوسنية. مع اندلاع الحرب العالمية الثانية واحتلال النازيين يوغسلافيا، عاش أندريتش سنوات تحت الإقامة الجبرية، وخلالها كتب أهم أعماله الأدبية، ومنها: “جسر على نهر درينا”، و”الفناء الملعون”، و”الآنسة”. ونال جائزة نوبل للآداب عام ألف وتسعمئة وواحد وستين. توفي إيفو أندرِتش عام (ألف وتسعمئة وخمسة وسبعين) في بلغراد.
أحداث الرواية:
ترصد رواية “جسر على نهر درينا” فترة ثلاثة قرون ونصف من حياة بلدة فِتشِغراد، المتنوّعة عرقياً، ودينياً بين مسلمين ومسيحيين ويهود، وبين صرب وبوسنيين وأتراك.
تبدأ أحداث الرواية في منتصف القرن السادس عشر وصولاً إلى بداية الحرب العالمية الأولى وتتناول الصراعات والتحوّلات التاريخية التي مرت على المنطقة منذ السيطرة العثمانية ومن ثم النمساوية، مع رصد التحوّلات السياسية والاجتماعية والاقتصادية والقيميّة، وذلك من خلال علاقة سكّان بلدة فيتشِغراد وتحولاتهم، تفكير الناس وقيمهم مع مضي الزمن من خلال جسرٍ حجري ربط الماضي بالحاضر، ووصل بين الصربيين والبوسنيين، وشهد على مر العصور خلافاتهم العرقية والوطنية والدينية.
اذن، فبطل هذه الرواية الملحميّة هو جسر حجري بأقواسه الأحد عشر حيث تبدأ الأحداث بسرد قصة بنائه، حيث تحكي الرواية عن كبير الوزراء العثمانيين محمد باشا سوكولو الذي اختطف في طفولته من قبل “جندرمة” العثمانيين، وسيق مع المئات من أمثاله إلى استانبول للعمل في خدمة الدولة، فيتدرّج في مناصبه، ويغدو من رجالات الدولة.
يعود سوكولو إلى البوسنة حاكماً، فيوعز ببناء الجسر الحجري فوق نهر درينا، كهدية منه إلى سكان البلدة.
ويحدثنا الروائي عن مراحل بناء الجسر مصوّراً العذابات التي فرضت على السكان الذين أجبروا على المشاركة في بنائه، وكيف تمرّد بعضهم وحاولوا تدميره، ليكتشف أمرهم وتوقع بهم عقوبة قاسية، ظلت تفاصيلها ماثلة في ذاكرة سكّان فيتشِغراد.
وتتوالى أحداث الرواية، وبرغم تنوّعها فهي مرتبطة بجسر درينا دائماً: كوارث الطوفان، الأوبئة، احتلال الجيوش النمسوية المجرية البوسنة في عام ألف وثمانمئة وثمانية وسبعين، وما أحدثه الاحتلال بالمدينة من تبدلات اقتصادية مختلفة، مد خط السكة الحديد الذي انتزع من الجسر جزءاً من قيمته، حركات اجتماعية، حروب بلقانية، ظهور أجيال ثورية قومية جديدة، ثم مقتل الارشيدوق فرانسوا فرديناند عام ألف وتسعمئة وأربعة عشر، ونشوب القتال بين صربيا من جهة وإمبراطورية النمسا والمجر من جهة أخرى، وهو القتال الذي أشعل الحرب العالمية الأولى.
قيمة الرواية ومكانتها:
في “جسر على نهر درينا” يبلغ طموح الروائي “ايفو أندريتش” أبعد من التوثيق التاريخي لما يحيط بالجسر من أحاديث وحكايا، فيحتفي باليومي والمتداول والعميق ليبلور صورة عالم متشعب، مسترسل مثله مثل النهر الذي يجري في حين أن الجسر يظل شاهدا وثابتا وأبديا.
وأكثر ما يميز الرواية هو مجاراتها لوعي الناس وأحاسيسهم، ونفاد مؤلفها إلى النفس الإنسانية، وبراعته في رسم الوجوه النفسية. وإن كان عالم الرواية شاسع بتعدد الشخصيات والنزعات والثقافات، وإن كان عالما عصيا على الإمساك فإن إيفو أندريش يملك تلك الحنكة التي تجعله يوسع أفق الرواية لتكون وثيقة فنية أدبية وتاريخية وفلسفية.
هذا العمل لم يخبرنا عن قصة شخص معين أو حتى مجموعة من الناس لأن عدد الشخصيات بالمئات والعديد منهم يختفي تماما عن نظر القارئ ومن دون سابق معلومة عن اختفائه. لكن الشيئين المركزيين في الحدث هما الجسر والنهر المرتبطان بالزمن دوما. إضافة الى وجودهما الحقيقي الملموس، فان الجسر الحجري ونهر درينا يمنحان معاً دلالة رمزية، فيمثل الجسر استمرارية المسعى الفني للإنسان والثاني قوة الطبيعة المتغيرة بلا حدود. ومع ذلك فإن فكرة التغير والجريان الكونية لم تكن محصورة هنا على مياه نهر “درينا” فحسب، بل جرى تأكيدها مع تصوير المؤلف حياة مدينة فيتشيغراد الجاثمة على ضفتيه.