بقلم : د. بهجت السعيدي*
بينما كان سكان الكرة الأرضية منشغلين بأحلامهم وأفراحهم وأحزانهم وحروبهم وأسفارهم ظهر الكائن متعدد التسميات والألقاب واللغات في عالمنا وأعني به الفيروس التاجي المستجد (Novel Corona Virus) المسبب لمرض كوفيد – 19 (Covid – 19) وأعلن عن نفسه وشنّ حربه المفتوحة على سكان الأرض والتي هي حرب غريبة وطريفة لأن هذا العدو يستخدم أسلحتنا ضدّنا والتي تتمثل بعاداتنا اليومية كاللقاء والمصافحة والعناق والتقبيل والسعال والعطاس والطعام والشراب وركوب السيارات وباقي وسائل المواصلات بل إنه يستخدم ويطوّع الحامض النووي الموجود في خلايانا لاستنساخ نفسه والتزاوج داخل خلايانا وإنجاب ذراريه وأحفاده فتخيلوا معي كيف تحولت أجسامنا إلى سرير زوجية لهذا الكائن المهووس بالتكاثر والتزاوج. ومنذ بدأت هذه الحرب الكورونية خضع أغلب سكان الأرض لإجراءات العزل الصحي والحجر الصحي وأصبحت هذه المصطلحات مألوفة لديهم أكثر من مصطلحات العولمة والتواصل الاجتماعي وصارت أخبار الفيروس ومواصفاته وانتماءاته وهواياته الشخصية ولونه المفضل وأكلاته المفضلة والموسيقى التي يسمعها صارت هذه الأشياء أهم لديهم من أخبار الفنانين والنجوم والمشاهير. غير أن هذا الاهتمام الجديد والمفاجئ رافقه قلق وضغط نفسي متزايد من العزل ذاته بحيث صار البحث عن حل ومتنفس من العزل أهم لدى كثير من البشر من اكتشاف حل ومتنفس من هذا الوباء رغم أن اكتشاف حل للفيروس هو مقدمة لحل العزل. وبما أن حل أية مشكلة يتطلب أولا معرفة أسبابها فلابد لنا من الرجوع إلى الوراء قليلا ماقبل وصول السيد كورونا إلى عالمنا وإشراكنا القسري في مخيمه الكشفي البعيد عن واقعنا السابق.
إننا اعتدنا أن يكون وجودنا وتفكيرنا وإحساسنا مرتبطا غالباً بمؤثر خارجي يحفزنا لننشغل بالتفكير به والإحساس به والتعاطي معه، أي بتعبير أدق إننا اعتدنا أن نشغل عقولنا وقلوبنا بأشخاص وأشياء وأحداث خارج أنفسنا وذواتنا كنوع من التهرّب من مواجهة الحالة الكورونية التي نمرُّ بها الآن والتي تجبرنا أن نشغل عقولنا وقلوبنا بأنفسنا وذواتنا ووجودنا المجرد وبطريقة ذاتية مع شحّة أو انعدام المؤثرات الخارجية المعتادة فنحن الآن علينا أن نفكر بل نتفكر في أنفسنا وفي كل شيء تختزنه ذاكرتنا أو تخترعه ذاكرتنا وخيالنا المهم أنه صادر من حجيرات أو خلايا عقولنا وقلوبنا التي اعتادت استقبال زوار من الخارج، زوار معلّبين وجاهزين لاحتلال هذه الخلايا الفكرية والعاطفية وهؤلاء الزوار يأتون بهيئة شخاص وأشياء وأحداث وهذه الخلايا مهمتها أساسا التفكر والتحليل والإنتاج وليس الانشغال الروتيني الممل بهؤلاء الزوار المعتادين المتكررين. إذاً لكي نتقبل هذا العزل الكوروني ونحوّله إلى عزل جميل مثمر علينا تغيير طريقة ملء الخلايا الفكرية والعاطفية في أنفسنا وتغيير أذواقنا في مانقتنيه من أشياء تملأ هذه الخلايا وإذا كان فيروس كورونا يحوّل خلايانا إلى عشّ زوجية له ويستنسخ نفسه داخلها ويتكاثر فيها فعلينا تحويل خلايانا الفكرية والعاطفية إلى عشّ فكري وعاطفي لاستنساخ وتكاثر أفكار وأحاسيس جميلة مفيدة لنا ولغيرنا.لقد وردتنا كثير من الحكم الربّانية التي تدعونا إلى التفكر في أنفسنا وذلك عبر آيات قرآنية وأحاديث النبي وأهل بيته عليهم الصلاة والسلام فلم لايكون الآن هو أنسب وقت لتطبيق هذه الآيات والأحاديث الشريفة التي بلاشك سمعها وحفظها كثير منا بحيث لا أجد حاجة لذكرها هنا فهي معروفة مسبقا للقراء. لم لانجرب الخلوة مع أنفسنا وتسجيل اعترافاتنا الصغيرة أو الكبيرة الجديدة او القديمة لعل استذكارها وتسجيلها يذكرنا بشيء كان لابد أن لاننساه. لم لا نكتب مذكراتنا التي سنكتشف بين طياتها كما هائلا من الدروس والعبر التي كانت ستجنبنا كثيرا من الأخطاء التي نقع فيها مرارا وتكرارا كطفل بلاذاكرة. لم لا نتعلم التهيؤ للمفاجآت ومفارقة الأشخاص والأشياء ولايتوهمنّ أحد أنني أدعو للوحدة الدائمة والذاتية المطلقة في هذا المقال فإن الإنسان لو فهم نفسه فهم غيره وفهم الوجود كله أو ليست النفس مفتاح الوجود وفيها انطوى العالم الأكبر ومن عرف نفسه فقد عرف ربه، فلنتعرف على أنفسنا لعلنا نعرفها ونألفها فهي الباقية معنا في رحلتنا الأبدية من الوجود وعبر الوجود وإلى الوجود. وإذا كانت العزلة مُرّة فطعم الدواء مُرّ والحمية قاسية والرياضة مرهقة والنجاح صعب. أتمنى لجميع البشر عزلاً موفقاً يخرجون منه بمفاهيم جديدة عن أنفسهم وعن الحياة والوجود وتكون أفضل لهم ولغيرهم.
———————-
* شاعر وطبيب عراقي
1 أيار 2020