الصبر الاستراتيجي…!

بِقَلَم العَميد مُنْذِر ألأيوبي *

كان يوم احد 28 مِن حزيران 2019 عندما عَبرَ رئيس ألولايات المتحدة الاميركية دونالد ترامب الحدود بين الكوريتين مِن الجنوبية الى الشمالية للقاء الزعيم الشمالي كيم جونغ أون في البلدة المتواضعة “بانمونجوم” Panmunjom التي سَبَقَ وجرى فيها توقيع إتفاقية الهدنة عام 1953 مصرحآ في حينه “إنه يوم عظيم بالنسبة للعالم” مؤكدآ أنه “فخور” لعبوره حدود المنطقة المنزوعة السلاح، وذلك قبل أن يسير عدة خطوات داخل أراضي الدولة الشيوعية المنعزلة والمعزولة ؛ أما عنوان القمتين اللتين عقدتا لاحقآ فبقي محصورآ في الموضوع الاساسي “البرنامج النووي” والصواريخ الباليستية ودون التبحر في الصور الملتقطة للحدث “اللقاء” والتسجيلات الفيديوية بدا الانسجام بين الزعيمين لافتآ، فالمصافحة تخطت البرودة ولامست الحرارة المعتدلة  ..
رغم الثابت الاستراتيجي لدى قيادة البنتاغون فيما يتعلق بألبرامج النووية لما يسمى “الدول المارقة” مع ضرورة خلع أنيابها الباليستية إلا ان تعليق الرئيس ترامب عَلى المحادثات كان اكثر مِن كافٍ لما يَدور في عقل الرجل :أنه ليس “في عجلة” التوصل إلى إتفاق مع كوريا الشمالية بشأن أسلحتها النووية. إستطرادآ أخفقت قمة الزعيمين (شباط 2019) في تجاوز الخلافات بين مطالب الولايات المتحدة بنزع سلاح كوريا الشمالية وتقليص مخزونها من الرؤوس النووية وما تريده بيونغ يانغ التي تضع في سلم أولوياتها وقف العقوبات المفروضة عليها او تخفيفها لكن الدوائر الاستخباراتية الاميركية تعلم تمامآ ان ما هو ذو أهمية استراتيجية قصوى ومطلوب لديها قد وقع بالحبر السري في مضمونه حظر تقديم او تسريب أية مساعدة لوجستية او علمية لطهران فيما يتعلق ببرنامجها النووي..
مِن جهة أُخرى؛ بدا الهجوم الذي وقع مؤخرآ في منشأة “نطنز” Natanz النووية الايرانية التي تبعد 320km عن العاصمة (قسم منها محصن تحت الارض) متواترآ ومتزامنآ أحيانآ مع سلسلة هجمات اخرى غامضة أو عمليات تخريبية متنقلة شملت عدة مواقع حيوية كان آخرها اليوم وفق ما اوردت وكالة الأنباء الإيرانية ‘إرنا’ IRNA عن انفجار في محطة للطاقة الكهربائية في محافظة أصفهان وسط البلاد دون وقوع إصابات؛ تاليآ فإن الانفجار الذي وقع والحريق الذي نشب في المنشأة ألنووية ذو أوجه متعددة سواء في أسلوب تنفيذ ألعملية ام في أبْعاد الاسباب ألمُحفِزة والاهداف المطلوبة لكنها في مجموعها تصب في خانة الهدف الاستراتيجي الاساس (إسقاط النظام) ..!
كما مِن البديهي ان تكون الحقائق الميدانية متقاربة مع فرضيات ما حصل ويحصل حتى ثبوتها :
١- هجوم ارهابي مَرن ينفذ عبر زرع عبوات متطورة مِن قبل مجموعة فُعِل نشاطها مؤخرآ بعد إقتراب طهران مِن ألوصول إلى قنبلتها النووية ألأولى وبالتالي تجاوزها الخط الاحمر المرسوم مِن قبل العدو الاسرائيلي والولايات المتحدة.
٢- شن غارة جوية بواسطة طائرتين مسيرتين الاولى مهمتها الرصد والتجسس والاستطلاع والاخرى للإطباق بصواريخها عَلى الهدف المعتلم بعد تسللها عَبرَ ممر جوي محدد لا سيما وان أحَدى منصات الرادار الروسية التناوبية التي دخلت الخدمة حديثآ نوع Container رصدت عبور طائرة مجهولة الهوية الاجواء الاذربيجانية نحو ايران، و ما يرجح الكفة هنا إقدام القيادة العسكرية الايرانية عَلى تفعيل منظوماتها الصاروخية للدفاع الجوي ووضعها في حالة تأهب قصوى بمعنى جهوزية التعامل آلياً وتلقائياً مع الاهداف العدوة او المشتبه بأنها تشكل تهديدآ ..
توازيآ؛ هددت طهران برد صارم في حال ثبوت وجود صلة بين الحادث – الهجوم واستخبارات العدو في حين أعلن موقع “ستراتفورد” Stratford ألأميركي “أن إسرائيل مسؤولة على الأرجح عن الانفجار والحريق في منشأة “ناتانز” يوم الثاني مِن تموز/ يوليو الحالي، ويدخل ضمن سلسلة حوادث أخرى وقعت قرب طهران على مدى الأسبوعين الماضيين منها تفجير مجمع “خوجير الصاروخي” في 26 حزيران الماضي”..!
هَل حققت العملية هدفها لجهة تأخير إنتاج ايران قنبلتها ألأولى ؟، وبالتالي منعها مِن فرض نفسها عضوآ في النادي النووي علمآ أن ألمنشأة النووية أساسية تحتوي أجهزة الطرد المركزي Centrifuges الأساسية في تخصيب مادة اليورانيوم.
مصادر استخباراتية وخبيرة اشارت إلى أن ترميم المنشأة لإعادة البرنامج النووي الإيراني إلى مرحلة ما كان عليه قبل الانفجار قد يستغرق عامين عَلى الأقل ..!
و في خطوة تقييمية معتادة أعادت الدوائر العسكرية المتخصصة في طهران مراجعة تعقيدات الهجوم السيبراني عام 2010 لفيروس “ستاكس نت” Virus Stuxnet milicious computer worn المتطور Cyber weapon على المنشآت النووية الإيرانية الذي استغرق التخطيط له أشهرآ ما ادى الى تعطل حوالي 30.000 من اجهزة الكمبيوتر من ضمنها إقتحام تجهيزات حاسوبية هامة في منشأة مفاعل “ناتانز” 2- عَبرَ “البوابة الخلفية” Back Gâté لبرامج الخوادم ألمستخدمة Server ..
صحيفة New York Times الأميركية أوردت “أن التفجير الذي استهدف مفاعل Natanz الأسبوع الماضي تم التخطيط له لأكثر من عام مشيرة إلى احتمالية التفجير عَبرَ زرع عبوة ناسفة أو هجوم إلكتروني”..!
إيرانيآ التحقيقات بشأن أسباب الانفجار قائمة في حين رد مستشار قائد الحرس الثوري الإيراني “غلام حسين غيبت برفر”: إن تسريبات صحيفة “نيويورك تايمز” عن الإستراتيجية الأميركية الإسرائيلية ضد إيران مجرد حرب نفسية والكلام عن تخريب المنشآت النووية واغتيال قادة الحرس الثوري لا تأثير له على سياسات البلاد المستمرة وأمنها ألقومي.
بالمقابل أنكرت اسرائيل علنآ علاقتها او مسؤوليتها عن أي من الهجمات في حين عَلَق وزير الدفاع الإسرائيلي “بيني غانتس” عقب الانفجار “إن إسرائيل لا تقف بالضرورة وراء كل حادث يقع في إيران”..!
في سياق مُتَصل ؛ سُجِلَ ارتفاع ملحوظ للعمليات التخريبية والهجمات أو حوادث الصدفة في الداخل الايراني التي شملت نقاطآ حساسة و حيوية كمرفأ بوشهر ومصانع مكثفات الغاز والبتروكماويات ومجمعات صناعية عسكرية، مِما يؤشر إلى تمدد الشبكات والخلايا المناوئة للنظام كمنظمة (فهود الوطن) و (ألقط ألفارسي) إلخ .. مع نمو إمكاناتها اللوجستية وقدرتها عَلى التحرك بإيعاز ودعم مِن تل ابيب أو سواها بالتالي جعل الساحة الايرانية مسرحآ قابلآ للإختراق بِما يضمن ضَرب معنويات الايرانيين وشعورهم بالأمن مع زعزعة قرارات قيادات الاركان العسكرية وإرباكها ..!
في هاجس الحرب يُسأل هَل إندلاع حرب إيرانية – إسرائيلية أصبحت اقرب مِن اي وقت مضى..؟؟
منذ 3 كانون الثاني 2020 إثْرَ إغتيال قائد لواء القدس في الحرس الثوري الايراني اللواء قاسم سليماني ونائب قائد الحشد الشعبي العراقي الموالية أبو مهدي المهندس بثلاثة صواريخ اميركية اطلقت عَلى موكبهما تباعآ مِن طائرة مسيرة نوع MQ-9 Reaper drone بدا ان الامر اكبر مِن عملية إغتيال تستهدف القائد الايراني المصنف في خانة “الصيد الثمين” Quite a Catch بَل إنعطافة للإستراتيجية الاميركية الاسرائيلية تقضي بتنفيذ ضربات خاطفة سرية موجعة دون ان تؤدي الى اشعال حرب واسعة و هذا ثابت مِن خلال تعليق وزير الدفاع الاميركي في حينه Mark Esper مختصرا السياق بعبارة “تغيرت قَواعد اللعبة” Game has changed
  American forces, protect American lives,” Mr. Esper said تزامنآ ؛ فإن الرد الايراني سيستجيب أو يماشي القواعد الجديدة كما سيكون محدودآ في النوع والحجم والتوقيت اذ لا مصلحة ايضآ بحرب شاملة قد تخرب الكثير مِن المكتسبات في الإقليم  او تفجر ساحات هادئة ما يؤدي الى تغيير الستاتيكو القائم بالإضافة إلى أن الهجمات “السيبرانية” سَتكون في مقدمة ادوات الانتقام وستشمل مؤسسات مالية او مصرفية اميركية ومنشآت حيوية اسرائيلية كمحطات الطاقة والمياه ..!
ماذا عن العودة الى طاولة المفاوضات ثنائية كانت او ثلاثية برعاية الامم المتحدة ..؟ كُثُر مِن خبراء الشؤون الاميركية السياسية والانتخابية يرجحون خسارة الرئيس الاميركي الحالي ترامب معركة تجديد ولايته كما ان طهران في المناخ نفسه وهي ليست بعيدة عن هذه التوقعات مِما يجعلها تعاند الدعوة الى التفاوض أو الرضوخ لأية تسويات إذ أنها لا تزال متمسكة بنظرية “الصبر الاستراتيجي” Strategic Patience بمعنى تحمل الحصار والعقوبات والعمليات التخريبية واللجوء الى “الاقتصاد المقاوم» هذا ما صرح به الرئيس الايراني حسن روحاني أمام مجلس الشورى خلال تقديم ميزانية الدولة السنوية إن «ميزانية العام المقبل هي ميزانية مقاومة وصمود في وجه العقوبات وسنعلن للعالم أنه رغم العقوبات فإننا سندير البلاد خصوصاً فيما يتعلق بالنفط».
السؤال ألأخير والأهم  : هَل سَتُمارَس نظرية (ألصَبر ألإستراتيجي) خلال الأشهر “ألعُدَة” وحتى انتهاء ولاية الرئيس ترامب .؟ أم ستمتد إلى فترة ولاية منافسه وخلفه المرجح جو بايدن ؟ الأمور مرهونة بأوقاتها وظروفها،  لكن ظلال حرب الضربات الخاطفة المتميزة بألتستر والمرونة “حُروب المنطقة الرمادية” ستبقى مخيمة و مستمرة عَلى ما يَبدو مع تمسك العدو الاسرائيلي بعقيدة “ألأخطبوط” Octopus Doctrine العسكرية بمعنى إيلام الرأس ولَيسَ ضَرب الاذرع فقط .. أما في التساؤلات ضمن القيمة المضافة رُبما يكون الصبر مفتاح الفرج للبنان و شعبه أيضآ ..!
—————————
بيروت في 20.07.2020