الرغبة في مشاركة أخبار حياتنا ليست جديدة ولا نرجسية
“الدنيا نيوز” – دانيا يوسف
تُعرّف النرجسية على أنها حب الذات المفرط أو التركيز المفرط على الذات. في الأساطير اليونانية، وقع نارسيسوس في حب نفسه عندما رأى انعكاس صورته في الماء، فحدّق فيها لوقت طويل جدًا حتى مات.
اليوم، فإن النسخة الحديثة عن ذلك ليست تحديق شخص في انعكاسه بل في صورته على هاتفه المحمول. فمن قضاء فترات طويلة لإيجاد فلترات سنابشات المثالية إلى تتبع الإعجابات على انستغرام، أصبح الهاتف المحمول ووسائل التواصل الاجتماعية دوامة تمتصّنا وتغذّي نزعتنا النرجسية، أو هكذا يبدو.
لم تكن اليوميات الوسائط الوحيدة التي استخدمها الناس لتوثيق حياتهم ومشاركتها مع الآخرين، بل شملت الوسائط التدوينية تلك القصاصات وألبومات الصور وكتب الأطفال وحتى عروض الشرائح، التي كانت كلها طرقًا استعملناها في الماضي لهذا الغرض، وكانت موجهة إلى جماهير مختلفة. يدل كل ذلك على أننا كبشر استخدمنا منذ وقت طويل الوسائط “الإعلامية” كوسيلة لترك آثار عن حياتنا. نحن نقوم بذلك لنفهم أنفسنا ولرؤية اتجاهات سلوكنا التي لا يمكننا رؤيتها مباشرة في تجاربنا المعاشة. نخلق آثارًا عن حياتنا كجزء من بنائنا لهويتنا وكجزء من خلق ذكرياتنا.
كما يمكن لمشاركة أحداث الحياة اليومية والأمور العادية تعزيز التواصل الاجتماعي والحميمية بين الناس. على سبيل المثال، عندما تقوم بالتقاط صورة لعيد ميلاد طفلك الأول، فإن هذا ليس مجرد محطة في نموه، بل إن الصورة تعزز هوية العائلة نفسها. إن فعل التقاط الصورة وتقاسمها بفخر يؤكد مثلاً على صورة الوالدين كأهل جيدين ويقظين. وبعبارة أخرى، فإن الآثار التي يتركها الآخرون في الوسائط التدوينية هي أيضًا جزء فائق الأهمية من هوياتنا الخاصة.
من خلال مقارنة التقنيات القديمة بالتقنيات الجديدة التي تُمكّننا من توثيق حياتنا والعالم من حولنا، يمكننا البدء في تحديد ما الذي يختلف حقًا في الوسائط التدوينية المعاصرة. إن منصات وسائل التواصل الاجتماعي، بناء على نموذج البث الإذاعي في القرن العشرين، هي اليوم مجانية الاستخدام، على عكس اليوميات التاريخية وسجلات القصاصات وألبومات الصور التي كان يتعيّن على الناس شراؤها. واليوم، تدعم الإعلانات استخدامنا للمنصات الشبكية، ولذلك فإن لدى هذه المنصات حوافز قوية لتشجيع استخدام شبكاتها وبناء جماهير أكبر من أجل استهدافها بشكل أفضل. هذا يعني أن صورنا، وكتاباتنا، و”اعجاباتنا” هي سلع يتم استخدامها لخلق قيمة تجارية من خلال الإعلانات المركّزة.
هذا لا يعني أن الوسائط التدوينية التاريخية كانت موجودة بالكامل خارج أي نظام تجاري، فلقد استخدمنا منذ فترة طويلة المنتجات التجارية لتوثيق حياتنا ومشاركتها مع الآخرين. في بعض الأحيان كان المحتوى يُستخدم لأغراض تجارية، وكانت سجلات القصاصات في أوائل القرن التاسع عشر مليئة بالمواد التجارية التي يستخدمها الناس لتوثيق حياتهم والعالم من حولهم. من السهل الاعتقاد أنه عند شراء مجلة أو سجل قصاصات فإنه يصبح ملكًا لك، ولكن بمشاركة المذكرات واليوميات وإرسالها ذهابًا وإيابًا، أو قيام الأهل من العصر الفيكتوري بقراءة مذكرات أطفالهم بصوت عالٍ، فإنّها تُعقِّد من مفاهيم الملْكية الفردية التاريخية.
إن وصول الحيز التجاري إلى الوسائط التدوينية لدينا هو أيضًا مسألة معقدة تاريخيًا. على سبيل المثال، اعتاد الناس في العقود السابقة على شراء الكاميرات والأفلام من كوداك، ثم إعادة الأفلام إلى كوداك ليتم تظهيرها. في هذه الحالات، كان لدى شركة كوداك القدرة على الوصول إلى جميع تدوينات أو ذكريات عملائها، ولكن الشركة لم تقم ببيع هذه “الآثار” بالطرق التي تفعلها منصات التواصل الاجتماعي اليوم. باعت كوداك للعملاء تقنياتها وخدماتها فقط، ولم تمنحها الشركة مجانًا في مقابل استخراج القيمة من آثار عملائها لبيع الإعلانات التي تستهدفهم، بالطريقة التي تستخدم بها منصات وسائل الإعلام الاجتماعية آثارنا لاستهدافنا من قِبل الإعلانات اليوم.
بدلاً من الربط بيننا وحسب، تقوم وسائل التواصل الاجتماعي بسحبنا إلى دوامة من التنبيهات، تحاول باستمرار جذبنا وإغراءنا بوعود التواصل مع الآخرين، إنه عيد ميلاد أحد الأشخاص، ولديك ذكرى من فيسبوك، هناك شخص أعجب بصورتك، لا يعني هذا أن مثل هذا التواصل الاجتماعي ليس له معنى أو أنه غير حقيقي، لكن ليس من المنصف الافتراض أن الناس قد أصبحوا نرجسيين على نحو متزايد بسبب استخدامهم لهذه المنصات. الحقيقة هي أنه هناك صناعة قيمتها مليارات الدولارات تجذبنا إلى هواتفنا الذكية باستغلال الحاجة البشرية القديمة إلى التواصل. نحن نشارك تجاربنا اليومية لأنها تساعدنا على الشعور بالارتباط بالآخرين، ولقد فعلنا ذلك دائمًا في تاريخنا.
إن الرغبة في التواجد على وسائل التواصل الاجتماعي أكثر تعقيدًا من مجرد النرجسية. حيث لا تتيح وسائل التواصل الاجتماعي بجميع أنواعها للناس رؤية أفكارهم فحسب، بل يمكنهم أيضًا الشعور بصلاتهم.