إنهيار وطن (3) سقوط المؤسسات الحتمي والمدوِّي في لبنان
بقلم : د. غسان الخالد*
(المقال الثالث ضمن سسلة مقالات “انهيار وطن” يكتبها الدكتور غسان الخالد وتنشر حصراً في جريدة “الدنيا نيوز” الالكترونية)
عادة ما يتم التمييز بين نوعين من المؤسسات هما المؤسسات الرسمية، والمؤسسات غير الرسمية. ويقصد بالمؤسسات الرسمية تلك المرتبطة مباشرة بأجهزة الدولة، وتشمل المؤسسات التشريعية والتنفيذية والقضائية والأجهزة الرقابية، المالية منها والإدارية. أما المؤسسات غير الرسمية فهي تلك التي تشكل ما يعرف في الغرب بالجماعات الضاغطة، والتي تعمل بشكل مباشر تحت الأنظمة والقوانين المرعية الإجراء، والبعض منها ياخذ الطابع المهني، ويكون من أولويات عمله رعاية المنتسبين والمحافظة على حقوقهم المادية والمعنوية المكتسبة بفضل ما كان يسمى نضالا لتحقيق المطالب المختلفة وفق الظروف. وغالبا ما يعتبر المكتسب حقاً شرعياً لا ينبغي التنازل عنه أو المساس به. فكيف يمكن لهذه المؤسسات الرسمية وغير الرسمية أن تساهم في انهيار الدولة؟.
اولا المؤسسات الرسمية.
يفترض قيام الدولة وجود مؤسسات مدنية وعسكرية، تشكل العامود الفقري للدولة. فضرورة وجود إدارة عامة، نابع من الحاجة إلى تخليص معاملات المواطنين وقضاء حاجاتهم على اختلافها، كما تسيير المرافق العامة والتي لا تستقيم الدولة إلا بوجودها. والمرافق العامة هذه تدار من قبل أشخاص وفق معيار الكفاءة والكفاءة فقط، اما في لبنان، فإن السلطة السياسية ومنذ نشأة الكيان اللبناني وحتى اليوم، لم تأخذ بعين الاعتبار هذا المعيار، بل وللأسف الشديد، تم الاعتماد على معيار المحسوبية المترافقة مع توزيع طائفي يأخذ بعين الاعتبار التركيبة الجماعاتية المشكلة للدولة. وفي كثير من الأحيان يتم استبعاد فئة اجتماعية ما، ذات انتماء ديني أو عرقي، وهو ما يسمى بتهميش الأقليات. وأحياناً قد يصار إلى تهميش متعمد لقوى سياسية معينة، ذات طابع أكثري ربما، من خلال تحالفات هادفة لذلك. وهنا وعلى سبيل المثال لا الحصر اذكر مقاطعة الغالبية العظمى من مسيحيي لبنان لانتخابات تشريعية، أدت إلى فوز بعض المرشحين بأصوات لا تتجاوز بضعة عشرات… ثم تطور التحالف الانتخابي في ظل قانون أكثري يعتمد الدائرة الكبرى، وشاهدنا ما اسميناه اصطلاحا المداحل الانتخابية، والتي نتجت عن تحالف أمراء الحرب مع البرجوازية الحريرية في منتصف التسعينات.
إن معيار السلطة السياسية في التعيينات الإدارية والذي قام على مبدأ المحسوبية وليس وفق معيار الكفاءة، قد ساعد بشكل أو بآخر على الفساد الإداري الذي تعاني منه معظم بل كل الإدارة. لكن ورغم خطورة هذا الأمر، فإن الخطر الأكبر كان في المؤسسة القضائية.
إن ربط السلطة القضائية بالسلطة السياسية في لبنان، يجعل من الأولى رهينة الثانية، بل وربما تابعة تبعية مطلقة للثانية. كما يزيد هذا الربط من استنسابية معالجة الملفات المطروحة اما القضاة، والأمثلة على ذلك كثيرة جدا، ومنها على سبيل المثال ملف الأملاك البحرية، وملف التدقيق الجنائي وغيرهما الكثير والكثير. ولعل هذا الترابط قد لا يكتفي بالاستنسابية، بل يتعداها إلى التداخل والتدخل احيانا في المسؤوليات داخل الجهاز القضائي نفسه،وقد يصل هذا التدخل إلى حد المخالفة القانونية. وفي هذا الإطار، كتب الدكتور القانوني محمد نديم الجسر، تعقيبا على ما حصل بين مجلس القضاء والقاضية عون على صفحته مستغربا تحت عنوان منطق التسلسلية الهرمية واحد، كيف يمكن أن يبرر مجلس القضاء الأعلى إلزام مدع عام إستئنافي بإتباع تعليمات رئيسه الإداري (مدعي عام التمييز)، ثم يحرض المحامين العامين التابعين للنائب العام الإستئنافي ذاته على التمرد على رئيسهم المباشر (النائب العام الإستئنافي)، انها ازدواجية تثير العجب كما تثير الريبة. ويتابع الدكتور الجسر، حول ما حصل داخل الجسم القضائي، أن النائب العام الإستئنافي هو قاض وليس موظفا تابعا لأحد، وبالتالي لا يمكن تنحيته، او كف يده، او إعطائه اجازة، كما لا يمكن التدخل في عمله، بما في ذلك علاقته بالمحامين العامين المعاونين له إلا بمقتضى النصوص القانونية. ولعل أبرز تعليق من الدكتور الجسر والذي يتضمن نوعا من الاستهزاء والسخرية هو عندما أعلنت وزيرة العدل إصابتها بالكورونا حيث كتب على صفحته الان بتنا نفهم ماذا حل بالقضاء.
أن هذا التداخل الاستنسابي في معالجة الملفات القضائية، وفي التدخل في صلاحيات القضاة، إنما هو ناتج عن تبعية السلطة القضائية للسلطة السياسية، ولذلك ومن هنا نفهم لماذا لا تعطي السلطة القضائية الاستقلالية التامة عن السلطة السياسية. ولعل الأخطر هو ما قاله احد المدعين العامين سابقا من أن القضاء هو الذراع الأقوى والأفعل للأجهزة الأمنية، فهل يمكن لنا أن نستخلص العبر من هذا القول ومن هذه التبعية؟.
انهيار القضاء.
من المفترض أن تكون السلطة القضائية مستقلة تماما عن السلطة التنفيذية، وبعيدة كل البعد عن المحاصصة السياسية وحتى الطائفية، مع مراعاة النسب وفق الطوائف. لكن في لبنان، وربما لبنان فقط، تتدخل السلطة التنفيذية كما التشريعية، ليس في التعيين فقط، وإنما أيضاً في التشكيلات القضائية من خلال وزارة العدل، ومن خلال طريقة تعيين مجلس القضاء الأعلى، ولاحقا كل المؤسسات المتعلقة بالقضاء من المجلس الدستوري إلى المحاميين العامين والمدعين العامين، وغير ذلك. والأخطر في مثل هذا التدخل هو التعيين وفق المحسوبيات السياسية. وهكذا يصبح القاضي أيا كانت المهمة الموكلة إليه، مقيدا سياسيا بمن عينه. وتتحول منة التعيين إلى تبعية عمياء، ومعها يتحول فتح ملفات القضايا إلى استنسابي، او إلى الوضع في الدرج، اي تنويمه إلى أن يقضي الله أمرا كان مقضيا. ذلك أن التعيين غالبا ما يجعل من القاضي أو المدعي العام الخصم والحكم، وهو ما لا يستقيم في الدولة العصرية. ولعل ما تشهده اليوم من صراع داخل الجسم القضائي لدليل ساطع على خطورة ربط السلطة القضائية بالسلطة السياسية. ومؤشر هذا الصراع هو انهيار السلطة القضائية، وانهيارها يعني انهيار الكيان.
——————–
*كاتب وباحث في علم الاجتماع السياسي