“إعترافات كاتم صوت” لمؤنس الرزاز..صمت مرتبط بالخوف وكاتب يعري ذاته لذاته
الدنيا نيوز- دانيا يوسف
يعتبر مؤنس الرزاز أبرز الروائيين الاردنيين الذي إكتسب شهرة عربية واسعة في القرن العشرين. ولد في مدينة السلط عام 1951 وهو إبن منيف الرزاز المفكر والقيادي الاردني الذي ساهم في تأسيس حزب البعث. درس الفلسفة في جامعة بيروت العربية لكنه لم يتمكن من إكمال الدراسة بسبب اندلاع الحرب الاهلية اللبنانية. إنتقل بعدها إلى بغداد حيث تخرج في جامعة بغداد حاملاً اجازة في فلسفة. سافر بعدها إلى واشنطن لاستكمال دراساته العليا إلا أنه تركها بعد عام واحد وعاد إلى بغداد ليشهد انتخاب والده أمينا عاماً مساعداً للقيادة القومية لحزب البعث العربي الاشتراكي في العراق. ولكن تغير الحال بعد ذلك حيث عانى والده من ظلم الرفاق وانقلابهم عليه، فأصبح والده رهين الاقامة الجبرية في بغداد لحين وفاته. وقد شكل هذا الامر هاجساً ظل يؤرق مؤنس طوال حياته. وقد عكس هذه المحنة في روايته التي نحن بصدد الحديث عنها “اعترافات كاتم صوت” التي عرّت تلك المرحلة وأساليبها البشعة من تصفيات الى إغتيالات وتكميم افواه للمعارضين.
عمل مؤنس الرزاز في حقل الصحافة فكتب في الملحق الثقافي لجريدة الثورة العراقية في بغداد، ثم انتقل للعمل كباحث في مجلة شؤون فلسطينية في بيروت. وفي عام 1982 عاد الى عمان واستقر فيها. وبقي يمارس الكتابة في الصحافة حتى وفاته في عمان عام 2002. أبرز رواياته: أحياء في البحر الميت، متاهة الأعراب في ناطحات السراب، جمعة القفاري.. يوميات نكرة، الذاكرة المستباحة وقبعتان ورأس واحد، مذكرات ديناصور، الشظايا والفسيفساء، سلطان النوم وزرقاء اليمامة، عصابة الوردة الدامية، حين تستيقظ الأحلام وليلة عسل.
أحداث الرواية:
منذ الفصل الأول من الرواية الذي يحمل عنوان “مدارات الصدى” يظهر الأبطال الثلاثة (الأب والأم والابنة) وهم يغرقون في العزلة والصمت رغم وجودهم معا في بيت الاقامة الجبرية. ولا تتواصل العائلة المسجونة مع العالم الخارجي إلا عندما يتصل الابن من الخارج في يوم محدد من أيام الأسبوع. ويشكل التواصل المتقطع مع العالم الخارجي تمهيدا لانتقال الرواية من الحديث عن شخصيات الاقامة الجبرية إلى الحديث عن اعترافات يوسف/ كاتم الصوت.
تبدأ “اعترافات كاتم صوت” بمونولوج الابن، ويلخص هذا المونولوج ظروف الاقامة الجبرية، ثم يقوم الأب والأم بجلاء شروط هذه الاقامة ويوضحان قسمات المكان المستباح بأعين الحرس. كما نتبين من سياق الحوارات الداخلية للشخصيات أن الأب كان مسؤولا كبيرا في السلطة التي اعتقلته. وتتوضح في هذه الحوارات بعض خيوط حياة هذه الشخصيات حيث يتعرف القارئ على تاريخ الأب المناضل الذي وصل حزبه إلى السلطة ثم اختلف معه فزج به في الاقامة الجبرية، وعلى تاريخ الأم التي أحبت الأب وتزوجته إعجابا به وبأفكاره السياسية.
القسم الخاص بـ”اعترافات كاتم الصوت” يشكل المادة الأساسية في العمل.
وهي جملة اعترافات متصلة يقوم يوسف من خلالها بتحليل وظيفته ككاتم للأصوات شارحا لنا الأسباب التي جعلته يمتهن هذه الوظيفة. وفي الرواية تظهر شخصية “سيلفيا” التي استأجرها يوسف ليسرد لها اعترافاته. ونظن أن كاتم الصوت وحده هو الذي يجهر بصوته، وعندما نتقدم في النص نكتشف أن الطرف الذي يفترض أن يسمع الاعتراف يعاني من الصمم. لكن المفارقة الكبرى تتمثل في كون كاتم الصوت نفسه لا يدرك أن سيلفيا لا تسمعه.
ولعل اصطناع شخصية كاتم الصوت ووضعية الاعتراف تكشف عن نية الكاتب الاختفاء وراء الشخصية للتشديد على منظوره للعالم بأن يجعل كاتم الصوت يمارس اعترافا كاريكاتوريا أمام فتاة صماء دون أن يكتشف للحظة واحدة أنه يعري ذاته لذاته لا أن تسمعه الفتاة التي استأجرها لتحقيق فعل الاعتراف والتطهر من أدران ما فعله.
أسلوب الرواية:
نص الرواية بالمجمل صامت فكأنّ الكاتب لم يستطع أن يقول ما يريد أن يقوله فالتجأ إلى هذا الشّكل الملتبس. فالصّمت هنا محكوم بالرّفض والمتكلّمون يرفضون أن يتكلّموا لأنّ سلطة قاهرةً تمنعهم من التّعبير عن آرائهم ومشاغلهم. وبالتّالي وهم يتكلّمون يكونون في وضعيّة خاصّة لا تسمح لهم بأن يصدروا ملفوظات قد تزيد من تعكير الوضعيّة الّتي هم فيها. وهذا يعني أنّ الصّمت مرتبط بالخوف من جهاز المراقبة وبالفضاء الّذي يتحرّك فيه المتكلّمون. والشّخصيات مكشوفة ليس فقط في مستوى الكلام الّذي تتلفّظ به، ولكن أيضاً في مستوى تحرّكها داخل البيت. ينبثق الخوف من الاحساس بالعراء والاستباحة. فلم يعد الانسان في هذا البيت يملك شيئاً من خصوصياته. وقد استعمل الرزاز للتعرف الى تحولات السلطة وتوالد القمع وازدياد سطوته، تقنية الأصوات وزوايا النظر المتعددة من خلال إعطاء الكلام للقامع والمقموع والشخصيات المراقبة في الآن نفسه.