أي وطن نورثه لأولادنا ؟
بِقَلَم العميد مُنذِر ألأيوبي *
إثنان و ثلاثون عامآ مضت بين عبارة البابا يوحنا بولس الثاني في 7 أيلول 1989 التاريخية الشهيرة: “لبنان أكثر من بلد: هو رسالة حريّة ومثل تعدّديّة للشرق كما للغرب”و بين كلمة البابا فرنسيس يوم امس الثامن من شباط 2021 امام اعضاء السلك الديبلوماسي التابع للكرسي الرسولي في مختصرها عبارة واحدة “لبنان منخرط في التوترات الاقليمية، ويمر في ازمة داخلية كما يواجه خطر فقدان هويته”، فترة من الهيولى متطابقة مع الصورة مر بها الوطن اللبناني في جوهرها تكونت الحقيقة، حقيقة ان لبنان وشعبه خسر الكثير من قيمه السياسية والاجتماعية والاقتصادية، ثم انحدر نحو هاوية لا قرار لها من الفقر والعبث السياسي، من فساد وغوغائية الادارة، من لا مشروعية قرارات المصارف وسطوها على اموال الناس، الخ… إضافةً الى ربط حبل السرة بالرحم الاقليمي المؤدي الى اجهاض محتم.
في سياق متصل، بعيدآ عن النهج اللاهوتي- السياسي للفاتيكان، وفي عودة الى الحيز السياسي والجيوسياسي. على ذمة الراوي باسمه وهو ليس بكاذب: “سأقوم بزيارتي الثالثة إلى لبنان بعد التحقق من أمور أساسية، وسنفعل كل شيء لتشكيل حكومة في لبنان حتى لو كانت غير مكتملة المواصفات، ان المبادرة الفرنسية هي الوحيدة التي تسمح بالتقدم نحو حل في لبنان إذ ان خارطة الطريق الفرنسية ما زالت على الطاولة ولا حلول غيرها”.
بعض عبارات صرح بها الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون خلال لقاءه في قصر ألإليزيه ممثلي وسائل الاعلام ألأميركية، الاوروبية و العربية مختتمآ : “عاطفتي تذهب نحو شعب لبنان، أما قادته فلا يستحقون بلدهم.. لبنان نموذج تعددي في منطقة عصف بها الجنون.. شعب لبنان رائع وقدم في الخارج نجاحات فكرية وثقافية غير مسبوقة”.
إستطرادآ، ضمن فرضية “ادارة ألأذن الطرشاء” المعتادة المتوقعة فان المسؤولين السياسيين وزعماء الاحزاب كما قادة التيارات والحركات على خواء تنوعهم لم يتابعوا او يقرأوا ما قيل، فإن اللبنانيين مقيمين ومغتربين، مهجرين او لاجئين، رفعوا رؤوسهم لا حياءً أو خفر، بل على قول إبنة الوزير “بزر جمهر” في وجه الملك “كسرى” والجموع : مَا كَانِتِ الْحَسْنَاءُ تَرْفَعُ سِتْرَهَا لَوْ أَنَّ فِي هَذِي الجُمُوعِ رجَالاَ..!!
هذا غيض من فيض ما اصبح عليه واقعنا السياسي ونوعية قسم كبير من المسؤولين، لقد بات الامر معروفآ لدى دول العالم وقادتها وهم لم يحتاروا في وصفها “إنها طبقة سياسية ميؤوس منها” … بالتالي لقد اصبحت الضرورات تبيح المحظورات للسير نحو انتخابات نيابية مبكرة قد توصل الى تغيير شامل، اذا اتقنت الناس خياراتها وهي هذه المرة بالمرصاد لهم وستفعل ..!
من جهة أخرى، في الميراث حددت اسبابه وفق طبيعة العلاقة بين الميت والحي، وبما ان ألإرث هو بقية الشيء او الثروة، فالخشية الا يبقى وطن نورثه لأجيالنا، ناهيك بمعضلة أخرى على ما يبدو إذ لن نجد من يرثه لعلة استمرار المصيبة فهم في الحكم يتوارثون كأن اموال الناس حقوق والبلد سقط متاع .. سياسيآ؛ في “الارتياب المشروع” لعدم القدرة على استيلاد حكومة جديدة ايآ تكن صفتها، فإن ثبوت ارتكاب الفعل بعلة فقدان التفاهم بين المُكَلَف و الشريك في التسمية والتوقيع، دفع عددآ من السياسيين ومجموعات الحراك المدني والعامة اضافة لقيادات دينية على قاعدة وقناعة نعمة التعدد الطائفي، للدعوة الى تطوير اصلاحي للنظام مع اجراء تعديلات دستورية ضرورية، كما ان البعض يدعو الى لا مركزية ادارية موسعة تقارب الفدرالية الى حد بعيد..
اما “الارتياب المحلي” فتجلى في فشل الاجهزة الامنية والقضائية او عدم رغبتها في كشف الجناة الاساسيين الذين تسببوا بالانفجار المروع في مرفأ بيروت وما نجم عنه من شهداء ضحايا ابرياء وجرحى؛ انطبق ذلك ايضآ على جرائم قتل متعددة في نفس الفترة ارتاب بها الناس اذ ربطوا ضحاياها
ومرتكبيها المجهولين او المُجَهَلين بعلاقة سببية مباشرة ام غير مباشرة بتفجير المرفأ الارهابي، وما تلاها من جرائم اخرى لتضاعف من وطأة الارتياب والشك لا بل الى عدم الوثوق استنادا لارتكابات سابقة، من نوع الجرائم الكاملة الموصوفة، نتائج تحقيقاتها صفر مقدر محتسب مسبقآ؛ فخيانة الحقيقة من اشد الجرائم المشينة، مع الاعتذار من الحكم ادانة او براءة ..!
في سياق متصل؛ يبدو ان الارتياب على الصعيد الدولي ينصب نحو قدرة الادارة الاميركية الجديدة على ترتيب اوضاع الاقليم وحل مشكلاته وانهاء حروبه المتنقلة، إذ يبدو ان الوصول الى مرحلة التسويات ستأخذ وقتآ ليس بالقصير و”المنتعة” ستكون في المسالك الوعرة وهي كثيرة متشعبة ملغمة باحترافية، اذ لطالما كان تحقيق الانفراج أصعب من وهج الانفجار، اضافة الى ان لبنان لم و لن يُحجَز له مقعد حول طاولة المفاوضات عندما يحين آوانها، لا بل مع الاسف سيكون ورقة ترمى على سطحها من او لأحد اطرافها خاسرة كانت ام رابحة لا فرق ..
من منطلق قول السيد المسيح “لا تحملوا شيئآ للطريق إلا عصا”. نطقت عصا الاسقفية او عصا الرعاية المارونية الوطنية، داعيةً الى “عقد مؤتمر دولي برعاية الأمم المتحدة والجامعة العربية لحماية لبنان وكيانه ومقومات الدولة فيه وتثبيت النظام على أساس الدستور وحفظ وحدة الكيان على قاعدة العيش المشترك “…
هذه الدعوة قد تنحو في حال دخول الشياطين، وما اكثرهم عَلى خط التفاصيل الى تدويل خاطيء عن قصد او غير قصد، في نتائجه العودة الى عملية تجميلية لشوائب الطائف والنظام، و هو ما اتقنه سياسيي الطوائف عَلى مر قرن مضى، الامر الذي يعني هدنة لسنوات ثُم عود عَلى بدء لازمات جديدة سيتحمل وزرها ابناؤنا .
فحذارِ، إن اللبنانيين في طموحاتهم لا يريدون تصحيحآ عَلى مبدأ “تبويس اللحى”، الامر الذي يفرض مؤتمرآ حقيقيآ يبني اسس الدولة المدنية العادلة البعيدة عن الطائفية، تنتظم فيها آليات الحكم وفق قانون انتخابي عادل غير مفصل نسيجه عَلى مقياس الطوائف والاحزاب والاقطاع السياسي، بَل يعتمد الكفاءات في التعيينات بعيدآ عن نظرية قاتلة “٦و٦ مكرر” موروثة تجاوزها الزمن وركب الحضارة الانسانية ..!
على صعيد وباء كورونا؛ كان صادمآ اليوم ما ادلى به كثر من المواطنين في برنامج إذاعي يبث صباحآ على احدى الاذاعات يستفتي المواطنين في قضايا اجتماعية وسياسية، اذ عبروا عن عدم ثقتهم بالدولة اللبنانية وخطة التلقيح المعتمدة، لا بل اكثر من ذلك بعضهم قال “ان اللقاحات ستهرب الى الخارج وتباع في السوق السوداء، في حين سيتم حقن اهل البلد بقطرات مِن مصل عادي لا قيمة وقائية له”..
انها قناعة مخيفة دون عجب “مصل الحقيقة المرة” لن يعلى عليها ان حصلت، غير مسبوقة في تاريخ الانسانية، محزنة مبكية الى حد تفضيل الموت على الحياة، اما الميراث فلا خير فيه ان بقي شيء منه لمن يكتب له عمر..!
————
بيروت في 09.02.2021