روما الثالثة …Rome 3
بقلم ألعَميد مُنذِر ألأيوبي*
مئةٌ و خَمسين أُسقُفية و مئتان و إثنان و أربعين دَيرآ إضافةً إلى كنائس في أكثَر من ثلاثين دولة تَتبع جَميعها ألبطريركية ألروسية ألأرثوذكسية و مَقرها موسكو ، كما يَبلُغ عَدد أتباعها المؤمِنين حوالي 130 مليون شَخص تقريبآ ..
أثر إنتِصار الثَورة ألبلشَفية تَعَرَضَت ألكنيسة ألأرثوذكسية ألروسية إلى نَوعٍ مِن ألحَظر و ألإضطِهاد ألديني و تَوقَف رَنين أجراس قِبابَها ، مِما دَفَع ألبطريرك ألروسي “تيخون” Tikhon إلى إصدار مَرسوم سَمَح بِموجَبه للمؤمنين ألروس في ألخارج بإدارة و تَنظيم شؤونهم ألكنسية بإستقلاليةٍ عن ألكَنيسة ألروسية ألأم ،، و عَملآ بهذا ألمَرسوم شَكَل ألأساقفة ألروس ألأرثوذكس “مَجْمَع كَنَسي” عُرِفَ ب “سينودس أساقفة روسيا في ألخارج” و ذَلِكَ إلتزامآ مِنهُم بِتعاليم ألبطريرك في سَبيل مُواصَلة خِدمَة أبناء الكنيسة و رِعايَتهم ألروحيَة خارِج ألإتحاد السوفياتي و البالغ عَددهم في حِينِه حوالي أربعة ملايين شخص تقريبآ …
نَالَ هذا ألمَجْمَع بَرَكَة بطريركية موسكو ألتي “أعتَبِرَت الكنيسة الروسية الأرثوذكسية خارج روسيا جِزءآ لا يَتَجَزأ من الكنيسة ألروسية ألأرثوذكسية ألعظيمة”.. في حين لاقَت هَذِه ألخُطوة رَفضَآ مُطلَقآ من ألحُكومة السوفياتية ألتي لم تَعتَرِف سِوى بالكنيسة ألروسية ألحَيَّة التابِعَة لَها ..
أثَر إنهيار ألإتحاد ألسوفياتي حَافظَت الكَنيسَة خارِج روسيا على إستقلاليتها ، لا بل أسَسَت العَديد مِن ألرَعيَّات (جمع رَعيَة) ثُمَ إنشَق عَنها أسقُفان و أنشَأوا ألكنيسة ألروسية ألأرثوذكسية ألحُرَة .. و في عام 2004 و بِجهود ألمتروبوليت “لاوروس” Laurus و ألبَطريرك ألروسي “ألكسي” Alexi عادَت كنيسة خارج روسيا إلى حُضن الكنيسة ألروسية ألأم بَعدَ أن مُنِحت إستقلالآ ذاتيآ في إدارة شؤونها ألخاصة ..
أثر جُملة تراكُمات و توتُرات على مَدى عِدَة سَنوات سَعَت مطرانية “كييف” Kiev إلى إلإنفِصال عن بطريركية موسكو ، إذ أعلَنَت هذه ألأخيرة و مِن جانِبٍ واحدٍ بِدء تأسيس كنيسة أوكرانيا ألمُستقلة ،، بألتزامُن و في تحدٍ صارِخ لِموسكو ألغَى بطريرك ألقسطنطينية المَسكوني “برثلماوس” Bartholomew ألمَرسوم الخاص ألصادر عام 1686 و ألقاضي بإتْباع مطرانية “كييف” إلى بطريركية موسكو تَمهيدآ لِلأعتراف بإستقلال ألكنيسة ألأوكرانية .
في أعقابِ ذلك ِإجتَمَع “ألمَجمَع ألكنسي” سينودس الكَنيسة الأرثوذكسية الروسية في مَدينة “مينسك”
Minesk حَيثُ أعْتَبِرَ بطريركية القسطنطينية المَسكونية قد تَجاوزت ألخَط ألأحمَر بِتشَرَيعٍها ألإنْشِقاق ، و أتُخذَ قَرارآ بِقَطع العلاقات مَعها بِشَكل كامل ،، بما فيها ألشراكة ألأفخارستيا ألإلهية Eucharist “سِر ألقربان ألمُقَدَس” ،، لا سيما بَعدَ تأكيد ألقسطنطينية ألأسبوع ألماضي إعترافها بالكَنيسة ألأوكرانية التي أعلَنَت إنشقاقها و إستقلالها عن بطريركية موسكو ، هذا ألإنشقاق ألمؤلم كَنسيآ إعتَبَره ألبطريرك ألروسي “كيريل” Kirill كارثِيآ ، مع ألإشارة إلى ان إمكانية التَسويَة بين ألبَطريركيتين يَبقى أمرأ قائِمآ و ليس مُستحيلآ ، إذ أن ما يَجمَعُهما أكبَر مما يُفَرِقهُما …
ماذا حَصَل بينَ ألبطريركية ألروسية و بطريركية ألقسطنطينية و تاليآ ألكنيسة ألأرثوذكسية ألأوكرانية ..؟؟ و ما هي خَلفيات ألإنشقاق ؟؟
هل هو ألدين على مَذبَح ألسياسة ؟؟… أم كالمُعتاد ما دَخَلَت ألسياسة شَيئآ إلا أفسَدَتهُ …
تَرى موسكو في أوكرانيا أليُنبوع ألأساسي للكنيسة ألأرثوذكسية ألروسية !! بَدَت خَلفيات ألصِراع و بالتالي ألإنشقاق ذات طَبيعَة سياسية بإمتياز ، و قَد ظَهَرَ ذلك جَليآ بعد قيام ألإتحاد ألروسي بِضَم شِبه جَزيرة ألقُرم عام 2014 ، أثر إندلاع قِتال إنفصالي دَامي في شَرق أوكرانيا أدى إلى سُقوط ما يُناهز 12.000 قَتيل تَقريبآ ، لَم تَكتَفِ ألحُكومة ألأوكرانية بِتَصعيد نِزاعها ألسياسي و ألعسكري مع موسكو في حِينِه ، فَوَجَهت أصابع ألإتهام إلى ألبطريركية ألأرثوذكسية ألروسية بِمُشاركتها في ألنِزاع و رُضوخَها لِرَغبات ألكرملين عَبرَ تَحريضها و دَعمها ألمُتَمَرِدين ألإنفصاليين في شَرق أوكرانيا ، إضافةً إلى مُساهمَتها في تَبرير ألنَزعَة ألتوسعية ألروسية …
في نَفسِ ألسياق ، لَعَبَ ألرئيس ألأوكراني “بوروشينكو” Petro Borochinko ألذي يَحظى بِدَعم واشنطن دَورَآ كَبيرآ في تأجيج ألصِراع على خَط “موسكو – كييف” عَبرَ حَملةٍ من ألكراهية ألمُمَنهجة ضِد روسيا و كَنيسَتَها ألبطريركية ألجَامِعة و الذي ما كان يُمكِن أن يَحصَل لولا وجود حَاضِنَة دَولية داعِمَة ، و بَاتَ إنشقاق ألكنيسة ألأوكرانية جِزءآ مِن ألأزمَة ..
“يوروشينكو” لم يُهمِل فُرصَةً لِصَب ألزَيت على نار ألأزمة ألأوكرانية ، فَمِن ضَم روسيا لشِبه جزيرة ألقُرم Cremia إلى طَلَب نَشر قوات ألناتو في أوكرانيا ، وصولآ إلى إستفزاز ألسُفن ألعسكرية ألأوكرانية لِأسطول ألبَحر ألأسود ألتابع للبحرية ألروسية في بَحر آزوف و إحتجازها ، يُحاول ألرئيس ألأوكراني إستِثارة ألعَصَبيات بِهَدَف خَلق قَضية و إستغلالها آمِلَآ أن تُشَجِع ألأوكرانيين على إعادَة إنتخابِه في آذار 2019 ضارِبآ بِعَرض ألحائِط مَصالِح بِلاده ألإقليمية و ألإستراتيجية ..
يأتي كل ذلك في توقيتٍ حساسٍ للغاية و في مَرحلة ألكباش ألأميركي – ألروسي ألمُتَجدِد ألدائر حاليآ مما يُثبت بِصورةٍ حاسِمَة تَداخُل ألسياسي بالديني ، فَمَصالِح ألدول تأتي قَبل أي إعتبارٍ أخلاقي أو ديني ..
يَعتَبِر ألروس ألأرثوذكس موسكو بأنها “روما ألثالثة” فهي حُصن ألعقيدة ألمسيحية ألحَقَّة ، و على ما يَبدو فإن ألرئيس فلاديمير بوتين “ألمُلتزم مَسيحيآ” و ألذي أعادَ روسيا ألقطب ألثاني سياسيآ و عسكريآ ، لن يألو جهدآ في جَعلِ موسكو و بطريركيتها “روما ألثانية” بدلآ من ألقسطنطينية ، فَيَكتَمِل بِذَلِك ثالوث عَودَة روسيا ألعظيمةً عَلى مُستَوى ألكَوكَب ..
*كاتب و بَاحِث في ألشؤون ألأمنية و ألإستراتيجية.