شاغِل البيت الأبيض يَشغَل بَال العالم..!


بقلم العميد منذر الايوبي*

“امريكا العرجاء” كان عنوان كتابه الصادر عام 2015 رَسَمّ في صفحاته الرئيس الاميركي دونالد ترامب رؤيته للإصلاح و (جَعلِ اميركا عظيمة مرة اخرى MAGA) استراتيجية قائمة على أداء شخصية مزاجية نرجسية حظيت بكثير من تحليل علماء النفس والاجتماع، فيما قدم عالم النفس السلوكي الدانماركي Henrik Tingleff بعد تشريح السلوك (الترامبي) قراءةً تُلَخَص كمثال على توحش الأنا (الإيغو). وتأكيدآ لذلك تميزه بسلوكيات حادة قد تصل حد العنف الخطابي احيانآ، مع ممارسة نهج حكم مُعتمِد على القوة والتأثير الشخصي لمصلحة شعار “اميركا اولآ” دون اي اعتبار لتحالفات دولية او التزامات عند الاقتضاء..!

تاليآ، يدفع ترامب في ولايته الثانية العالم نحو مزيد من التغيرات السياسية والاقتصادية، كما لا يتورَع عن السير في خطط تعديل الجغرافيا بفروعها البشرية، السياسية والاقليمية مع اعادة رسم خرائط الدول والحدود دون اقامة اي اعتبار لعامل الوقت في الامهال او التريث، ليضع نُصب عينيه وقف الحروب الاقليمية والسَعي لإحراز جائزة نوبل للسلام الطامح اليها..

في جردة سريعة لجدول اهدافه الخارجية (حتى الآن) اعادة السيطرة على قناة باناما، الاستيلاء على منطقة غرينلاند الاستراتيجية، تهديد الدولة الكندية بالضم ورفع منسوب الضرائب على منتجاتها، وضع الطَوق الجداري على الحدود مع المكسيك، السيطرة على قطاع غزة وتهجير سكانه الى مصر والاردن ،إسقاط حل الدولتين (اسرائيل وفلسطين) اضافة الى الموافقة على تغيير حدود الدولة اليهودية وسياستها التوسعية؛ وقف الحرب الروسية-الاوكرانية وانجاز صفقة استثمار المواد الارضية النادرة، اضافة الى ترتيب نفوذ روسيا على صعيد القارة العجوز، وقف التصادم التجاري مع الصين..الخ
اما على الصعيد الداخلي فجاء خطابه امام الكونغرس في الخامس من الشهر الجاري متضمنآ العمل على إصلاح البنية الادارية والاقتصادية؛ رفع مستوى معيشة المواطن الاميركي؛ خفض نسبة البطالة والتضخم؛ حماية المنتوجات المحلية ودعم المشاريع الصناعية والتقنية، اضافة الى تنفيذ اكبر عملية ترحيل للمهاجرين غير الشرعيين من البلاد الخ…!

سياقآ؛ إزاء قرار الرئيس الاميركي إنهاء الامتيازات المجانية سواء ما يتصل بالضمانات الامنية او العلاقات التجارية واصراره على دفع اعضاء حلف شمال الاطلسي نصيبهم العادل من التغطية المالية فشل اجتماع بروكسل الاخير للقادة الاوروبيين في تبني استراتيجية دفاع مشترك قائم على مواصلة دعم اوكرانيا، ما افرز فوضى إشتباك سياسي بين الحلفاء المنقسمين في ظل التحديات الوجودية الداهمة.. فيما اعاد الرئيس الاوكراني زيلينسكي مراجعة حساباته معلنآ موافقة مُسبقة على اتفاق المعادن مع الاستجابة لفروض ترامب في تصحيح المسار لجهة وقف الحرب الاوكرانية-الروسية والتوقيع على اتفاقية السلام الثنائية القائمة على تنازلٍ وتخلٍ عن الاقاليم الاربعة التي ضمها الرئيس بوتين الى روسيا (من منطلق الاغلبية الديموغرافية والمصالح الاقتصادية)، كذلك التعهد بعدم انضمام كييف الى حلف شمال الاطلسي مستقبلآ ..

بين الحزم والمرونة، ستكون فترة ترامب الرئاسية حافلة بمعالجة القضايا الدولية وفقا لرؤيته الاستراتيجية وعقيدة اميركا العظيمة بدءآ بالمنطقة المضطربة في المحيط الهادئ “استقلال جزيرة تايوان عن الصين؛ النزاع بين الكوريتين؛ التوتر الاقليمي مع اليابان الخ..” اما على صعيد ايران فالرئيس ترامب لا يريد حربآ طالما قُصَت اذرعها في الاقليم مُكتفيآ بفرض الحصار الشامل وتطبيق سياسة الضغوط القصوى، بالتوازي وخلال مقابلة مع قناة “فوكس بيزنس” بُثت يوم امس، اعلن رغبته بالتفاوض قائلآ “إني آمل أن تتفاوضوا، لأن الأمر سيكون أفضل بكثير بالنسبة لإيران” ليبقى الهامش الممنوح لنتنياهو في استهداف المنشآت النووية أو النفطية سيفآ مُصلَتآ على طهران..

لا يبدو ان الامور تقف عند ما تقدم، اذ لكل يوم جديده فشاغِل المكتب البيضاوي يَشغلُ بال العالم، هو لم ينتهِ من اخراج ما في طيات افكاره مطبقآ نهج الواقعية الجديدة او البنيوية القائلة “ان السلطة هي العامل الاكثر اهمية في العلاقات الدولية”. وإذ تعتبر الدول متشابهة في الاحتياجات لا في القدرات، يصبح سعيها الى تحالفات عسكرية او اقتصادية من الضرورات كحال الاتحاد الاوروبي حيث (معضلة الامن) متجذرة ترتبط بحجم التهديدات في ظل ضعف او محدودية الامكانات، فيما كرس تعادل القوى النسبي بين القوتين العظميين الولايات المتحدة وروسيا الاتحادية مبدأ الثنائية القطبية..

من جهة اخرى؛ تبدو العلاقات مع المملكة في حال جيدة وبخاصة مع وعد ولي العهد السعودي محمد بن سلمان ضخ استثمارات في الولايات المتحدة بقيمة تريليون دولار، فيما اكد ترامب ان زيارته الخارجية الاولى بعد دخوله ثانيةً البيت الابيض ستكون للسعودية اوائل الشهر المُقبل، بالمقابل يَصِح الرهان على قدرة ولي العهد اقناعه التخفيف من غلوائه لجهة رفضه او تحفظه على مقررات القمة العربية الاستثنائية التي انعقدت في القاهرة المتعلقة بالقضية الفلسطينية وخطة اعادة إعمار غزة، سيما ان اربع دول اوروبية (فرنسا،المانيا، ايطاليا وبريطانيا) اعلنت دعمها تجنبآ لتهجير سكان القطاع المحاصر، كذلك ضرورة تفهم الموقف السعودي من رفض عملية التطبيع مع اسرائيل قبل اقرار حل الدولتين؛ كما سيُطرَح موضوع الانسحاب الاسرائيلي من جنوب لبنان ووقف الاعتداءات..

ثم ان ودآ غير مفهوم ربما من منطلق كاريزما شخصيتين متشابهتين الاولى (ترامب) مستندة على سلطوية عقيدتها تجارية وثانية (بوتين) خلفيتها استخباراتية مؤداه علاقة مميزة ذات مصداقية بين كلاهما سواء في تقاسم نفوذ او موائمة حلول ؛ وربما تكون ابرز مؤشراتها الوساطة الروسية بين طهران وواشنطن، كذلك رؤية ترامب لجهة تخلُص الجميع من أسلحتهم النووية. قائلآ “أعلم أن روسيا ونحن نملك العدد الأكبر بفارق كبير، والصين ستصل إلى نفس المستوى خلال 4-5 سنوات. سيكون رائعاً لو استطعنا جميعاً نزع السلاح النووي، لأن قوة الأسلحة النووية جنونية”..!

ختامآ الرئيس ترامب يريد ان يغرُس العلم الاميركي على سطح المريخ، هو يؤمن ويعتقد وفق قوله ان “الرب أنقذني لأجعل أمريكا عظيمة”.. ليبقى السؤال من ينقذ الكوكب في لحظات التخَلي ووهم السيطرة المطلقة..؟

*عميد كاتب مختص في الشؤون الامنية والاستراتيجية