متغيرات هائلة ترسم الصورة الجيو سياسية للمنطقة..!

 

بقلم العميد منذر الايوبي*

سقطت الدهشة بعد مفاجآت، سلسلة انهيارات شملت ارجاء الاقليم الشرق اوسطي ذو الزوايا الملتهبة. اذ لم تعد الخطة الجيوسياسية الاميركو-إسرائيلية المرسومة بسيناريوهاتها المتعددة بحاجة لجهد شحذ تفكير وتمحيص قراءةً لاسباب وحيثيات، صيرورة تراكم احداث ونشوء اخرى تَعبُرُ ضمن عاملي الزمان والمكان، ثم انها تغيرات هائلة صاعقها او احد اسس بداياتها الميدانية كانت عملية طوفان الاقصى، ليكون الرَّد بما لم يكن منتظرآ حرب إبادة على قطاع غزة، ثم محاولات جيش العدو شن عملية تطهير مناطق محددة من الضفة الغربية ومخيماتها دون تحديد امد زمني.. توازى معها فتح المقاومة حرب اسناد جنوبآ تلقفها العدو متحينآ توقيتآ مناسبآ لحرب لا هوادة فيها اصابت المقاومة في الصميم دون تفريق بين حزب الله والمدنيين وصولا إلى العمق اللبناني والضاحية الجنوبية.
بالتزامن وللمرة الاولى في تاريخ الصراع سواءً ضمن نظرية وحدة الساحات او للرد على اغتيالات، اندلع تراشق صاروخي وبالطائرات المسيرة بين ايران واسرائيل، اسفرت جولتها الاخيرة عن تدمير معظم المنشآت الصاروخية الدفاعية الإيرانية ، ليأتي الحدث المحوري اجتياح الفصائل الاسلامية وعلى رأسها هيئة تحرير الشام معظم الاراضي السورية وحواضرها المدمرة وصولآ الى العاصمة دمشق، متمكنة من إقتلاع نظام الاسد كاشفة عن مجازر وجرائم ارتكبت على مدى نصف قرن بعيدة عن انسانية ودين..

اسفرت هذه الوقائع الميدانية واخرى لم تُذكَر عن ترددات زلزالية متواصلة لم تنته ِفصولها يمكن تبويب مندرجاتها مع استشراف نتائجها اختصارآ وفقآ للتالي:
-تصدعات كبيرة في قيادة حركة حماس وبنيتها العسكرية لم تحجب صمودا ادى رغم كل ما شابها من ملابسات واغتيالات الى فرض تسوية لا تزال في مراحلها الاولى قيد التنفيذ، حتمت وقفآ لاطلاق النار وتبادل الرهائن مع المعتقلين في سجون الاحتلال. ورغم الدمار الرهيب خرجت المقاومة الغزيَّة على وسائل الاعلام لتثبت على مرأى العالم الحُر استعادة قواها وتنظيم صفوفها بما لا يصح عن قول “قُصِم ظهرها”..
-اتت دعوة الرئيس الاميركي دونالد ترامب الى تهجير “ترانسفير” فلسطينيي غزة والضفة الغربية الى مصر والاردن برهانآ على ما حيكَّ، يكفل تمددآ في الجغرافيا (مساحة الكيان الغاصب) وتقلصآ في الديموغرافيا (فلسطينيي الداخل المحتل) هدف تصفير معادلة المبادرة العربية للسلام وإنهاء حل الدولتين.
-اصابة المقاومة الاسلامية في بنيتيها العسكرية والقيادية، ليصبح تطبيق القرار الاممي 1701 بكامل مضامينه حكم امر واقع تحت اشراف اللجنة العسكرية الخماسية، مع الزام حزب الله سحب مقاتليه الى شمال نهر الليطاني وتسليم كامل منشآته العسكرية واسلحته جنوبي النهر للجيش اللبناني.
-تقليم مخالب ايران واعادتها انتشارآ ونفوذآ الى داخل حدودها الجغرافية الدولية، مع قطع الاوصال اللوجستية وطرق الامداد المادية لاذرعها او حلفائها في لبنان، سوريا والعراق. لتبقى مسألة إنهاء برنامجها النووي وتدمير مفاعلاتها داعي ارتياب وسيفآ مسلطآ في آن، نصله 1800 قنبلة اميركية خارقة للتحصينات نوع MK-48 و BLU-118 ..
-اقدام الجيش الاسرائيلي على قضم قسم كبير من الاراضي السورية منها قمة جبل الشيخ الاهم على المستويين العسكري والتنصت الاستخباراتي التقني مع تدمير كل مقومات الجيش السوري وكافة قواعده البرية والجوية والبحرية.
-تمديد مهلة تطبيق اتفاق وقف اطلاق النار والأعمال العدائية عشرون يومآ اضافيآ، دون كبحِ هجمات العدو الجوية او عملياته البرية في تدمير القرى والبلدات بشكل ممنهج، اضافة الى محاولته التمسك بنقاط استراتيجية ضمن الاراضي اللبنانية.
-دعوة مجموعة من النواب العراقيين الى تفكيك سلاح الفصائل المتحالفة مع ايران “منظمة بدر، عصائب اهل الحق، سرايا الخرساني، حركة النجباء” الخ.. المصنفة من قبل واشنطن منظمات ارهابية، مع حَل الحشد الشعبي كضرورة وطنية وحاجة لإيقاف تدخل طهران في قضايا العراق الداخلية كما انتهاكات شملت حقوق الانسان والحريات العامة..
-انسحاب القوات الروسية من سوريا رغم محاولة موسكو معالجة المسألة خلال زيارة هي الاولى منذ الاطاحة ببشار الاسد تمثلت بلقاء ميخائيل بوغدانوف نائب وزير الخارجية الروسي الرئيس الانتقالي احمد الشرع لإطلاق مفاوضات ستحدد طبيعة العلاقات المستقبلية بين البلدين، مع الحفاظ على التواجد في قاعدتي حميميم الجوية وطرطوس البحرية ..

على صعيد الداخل اللبناني، اتى انتخاب رئيس الجمهورية جوزاف عون ثم تكليف القاضي نواف سلام تشكيل الحكومة الجديدة ليكرس حالة تغييرية قلبت موازين السلطة القائمة قاربت النسق الانقلابي السلمي، مانحةً آمالآ كرسها خطاب القسم تعهدآ بانهاء فساد حكم وحكام ضمن مسيرة إنقاذية اصلاحية تعيد تركيب هياكل الدولة ومؤسساتها، كما معالجة القضايا الشائكة في مقدمتها اعادة اموال المودعين وحصرية السلاح..

تاليآ؛ يبدو ان وضع آليات تطبيق القرار الاممي 1701 وبنوده لن يقف عند ما أُقِر وينفذ، إذ ان مماطلة حكومة العدو في الانسحاب من الجنوب مؤشر محاولة جديدة لفرض ترتيبات امنية اضافية دائمة بالرقابة الاميركية المباشرة، تتواءم مع السيناريو الشامل والاتفاق الجانبي الضمني بين واشنطن وتل ابيب المانح الاخيرة حق التدخل العسكري ضمن الاراضي اللبنانية عند الاقتضاء او الاشتباه بمصدر تهديد ما..

قد يمكن الاستنتاج وفقا لجملة معايير ومؤشرات التزام، ان الاهتمام التركي-القطري بسوريا الجديدة هادفُ بناء تحالف صلب على الصعد كافة، كما داعمُ نظامها الجديد المعادي لايران.. بالمقابل الرعاية السعودية-الفرنسية للوضع اللبناني تنقل البلد من الضفة الايرانية الى العربية الطبيعية والواقعية، هدف استقرار مع رتقِ ما تمزق من وثيقة الطائف؛ ولكلا الحالتين المظلة الاميركية واحدة سواءً بإبقاء تواجدها العسكري او عدمه إذ لا تخَّلٍ بعد ان اثبتت واشنطن احتكار قيادة المنطقة دون شريك، فارضة نفوذها بما يحفظ مصالحها ويحمي الكيان الاسرائيلي..!
على صعيد تشكيل الحكومة وبدء مسيرة العهد الجديد، فالمرجح بعد لأيٍ صدور مراسيمها قبل يوم الخميس القادم خلال او اثر زيارة الامير يزيد بن محمد بن فهد آل فرحان موفد المملكة العربية السعودية الى بيروت ثمرة تذليل عقبات وعُقد بضمانة الرياض على ما شابه جهوده في انجاز الاستحقاق الرئاسي..

ما تشهده المنطقة بعيد عن تغيرات عرضيّة تحذُف او تزيد من عوامل الإعلالِ او الإبلال، كما ان المايسترو يحتفظ بالخطط البديلة بما يضمن تحقيق الاهداف الاستراتيجية والجيوسياسية المرسومة وفقآ لتغير الظروف والمستجدات. اربع سنوات قادمة من ولاية الرئيس ترامب سيسعى خلالها على ما ينوي وَوعَد تنفيذ شعاره (اميركا اولآ) مع اعادة رسم معادلات القوة ما يؤكد استعادة الولايات المتحدة دورها في حكم الكوكب، وللعالم كما الإقليم خيار من ثلاث: التماهي والقبول، المقاومة والرفض او الانتظار والصلاة..!

*عميد متقاعد، مختص في الشؤون الامنية والاستراتيجية