لمقام الحيرة ثلاثة منازل: حَيْرة نازلة، وحَيْرة وسطى، وحَيْرة صاعدة.
1- الحَيْرة النازلة، وتختص بالكثرة من الناس. معها يكون الحائر متطيِّراً مما يكِّدره من أمور دنياه، فيتشابه عليه خيرُها وشرُها، عاليها وسافلُها، ولا يجد لأمره حيالها من سبيل. وهذا الصنف من الحَيْرة ينتسب الى ما سبق ونعتناه بـ “الفراغ العجيب”. الممتَحنُ بهذا النوع من الفراغ محاطٌ بالقلق من كل جانب. فهو أشبه بحاوية ضخمة من الظنون. سمتُه اللاَّيقين وفقدان الذات الواثقة بنفسها. لا يواجه الحائر فيه أمراً إلا أخَذَه العَجَب، فالفراغ العجيب علم ناقص ولأنه محكوم بالنقص فلن يسفر إلا عن حيرة مشوبة بالجهل ولا تبلغ سداد العقل. فإذا كان من أفعال العقل ان يجمع ما تفرّق في عالم الممكنات والمحسوسات، فالحائر في الفراغ يفرِّق ما كان شملُه مجموعاً. لهذا مضينا الى القول، أن الحائر ها هنا يدور حوالى نفسه، ولا يملك ان يغادر دوّامته قط. فإن من طبائع الحيرة النازلة جمعها بين نقيضين: يقين ناقص وشك ناقص، والعائش فيها لا يقدر ان ينفذ بنقائض نقصانه الى انشراح الصدر.
2- الحَيْرة الوسطى منزلة أعلى من سابقتها. لكنها مع ذلك حَيْرة موصولة بعالم الأشياء الفانية.. وبحكم كونها أرفع منزلة من الأولى تسنى للحائر منفسحاً للتدبير بما لديه من ذكاء وفطنة وسَعَةِ حيلة.
في هذا المطرح يرنو الحائر الى مجاوزة نقصه شوقاً الى الانسجام والكمال. إلا أن عيشه في المنطقة الوسطى بين الفراغ والامتلاء يبقيه حائراً فلا يفلح بالصعود درجة الا إثر مكابدة…
3- الحَيْرة الصاعدة: هي حَيْرة الذين اختبروا المنزلتين السابقتين، وقرروا ان معرفة العالم لا تُنجز إلا في صورة جمع الأضداد. لهذا عرَّفها ابن عربي بأنها تأثير شهود جمع الأضداد على ذهن العارف ونفسه وعقله. وهي أمر طبيعي عند اولئك الذين تتطلع أعينهم الى ما وراء الأشياء وفي أعماق الطبيعة. ربما لهذا الاعتبار كانت الحَيْرة عنده نوعاً من الضلالة المطلوبة التي تُوصِلُ الانسانَ الى موضع يرى فيه ان الحيلة الوحيدة لقطع الطريق هي تلك التي يريها الله له.