الحرب العالمية الثالثة بدأت … هل هي نهاية الحضارة؟
إيمان درنيقة كمالي*
في واحدة من أشهر أقواله، أكد ألبرت أينشتاين: “لا أعرف بأي أسلحة ستُخاض الحرب العالمية الثالثة، لكن الحرب العالمية الرابعة ستُخاض بالعصي والحجارة”.
لا شك أن تنبؤ أينشتاين المخيف يعمل كتذكير صارخ بالإمكانات التدميرية للأسلحة النووية، التي أُطلقت العنان لها لأول مرة في الحرب العالمية الثانية، والتي غيرت تفكير الأمم وغيّرت الوجود.
هل يعني هذا أن “الحرب العالمية الثالثة” ستدمر “الأرض بأكملها”؟
هل نحن، كما قال ترامب، “على بعد خطوة واحدة” من حرب عالمية ثالثة؛ أم أن هذه الحرب بدأت بالفعل؟
وإذا انتهت الحرب العالمية الثانية باستخدام الأسلحة النووية، فهل ستكون الحرب العالمية الثالثة بمثابة نهاية البشرية؟
إن التاريخ حافل بأمثلة الحروب المدمرة، من فتوحات الإسكندر الأكبر سنة 336 ق.م، إلى الحرب الفارسية الرومانية التي دامت نحو ربع قرن بين 602 و627 ق.م، وكانت على كافة جبهات العالم المعروف آنذاك، إلى غزوات المغول التي قتلت ما بين 45 و60 مليون إنسان، أي ما يعادل 15% من سكان العالم؛ بالإضافة إلى الحروب النابليونية والحروب الصليبية وغيرها من الحروب المدمرة التي استمرت لسنوات طويلة وقتلت أعداداً هائلة من البشر. ورغم أن هذه الحروب تسببت في فظائع هائلة ومعاناة غير مسبوقة، إلا أنها لم تقض على الحضارة ولم تنه الوجود الإنساني؛ ورغم حجم الدمار، أثبتت هذه الحروب أنها ضرورية لتحريك التاريخ وتسريعه من أجل بناء وعي جديد وأنظمة جديدة وتفكير جديد؛ إلا أن أياً من هذه الحروب لم تكن حروباً “عالمية”.
وهذا يقودنا إلى تعريف “الحرب العالمية” في عالم اليوم. إن الحرب العالمية تعني أن من يملك السلطة له الحق المطلق في تشكيل التاريخ وفقًا لرغباته، دون مراعاة الخصوصيات السياسية والثقافية والدينية والحضارية واعتبارات حقوق الإنسان. إن هذه العقلية أو الاتجاه المتمركز حول السلطة، السائد في الثقافة الغربية، هو الذي أدى إلى الحربين العالميتين الأولى والثانية.
يكشف التحليل التاريخي أن الحرب العالمية الأولى اندلعت بسبب تفاعل معقد من العوامل، بما في ذلك الطموحات الاستعمارية والتوسع الإمبراطوري وتصاعد التوترات بين القوى الأوروبية. كان اغتيال الأرشيدوق فرانز فرديناند في عام 1914 بمثابة المحفز للصراع، والتوترات الكامنة التي كانت تغلي لسنوات.
النقطة هي أن الحرب العالمية الأولى بدأت في الواقع قبل سنوات من عام 1914، وقد حدثت دون داع، “فقط” من أجل تأكيد “القوة”.
وعلى نحو مماثل، بدأت الحرب العالمية الثانية، التي تأججت بفعل تضافر عوامل من بينها عدم الاستقرار الاقتصادي، والكساد الأعظم في عام 1929، والنزعة القومية الصاعدة، في عام 1937 في الشرق بين اليابان والصين، ولكنها انتشرت بسرعة إلى أوروبا وخارجها. وأثبت استخدام الأسلحة الذرية من جانب الولايات المتحدة التفوق العسكري الأميركي وشكل نقطة تحول في تاريخ الحروب، حيث لم يتجاوز وزن القنبلة الذرية التي استخدمتها الولايات المتحدة في ذلك الوقت 17 كيلوطناً للقنبلة الأصغر التي ألقيت على هيروشيما، و21 كيلوطناً للقنبلة التي ألقيت على ناجازاكي، في حين تمتلك أميركا وروسيا اليوم أسلحة أكثر تدميراً، تتجاوز بكثير هذا الصراع السابق.
تفترض نظرية جون ميرشايمر “مأساة سياسات القوى العظمى” أن “القوى المهيمنة، التي تحتل المقعد الأعلى في العالم، تسعى بنشاط إلى منع صعود “المتحدين المحتملين”، من خلال عدم السماح لأي قوة “صاعدة” بأن تصبح قوة “مهيمنة”. لقد كانت هذه الديناميكية واضحة في الفترة التي سبقت الحربين العالميتين، حيث سعت القوى الراسخة، مثل بريطانيا، إلى الحفاظ على هيمنتها.
وبالتالي، يمكننا أن نؤكد أن الحرب العالمية الثالثة قد بدأت “بالفعل”، وأن شبح الحرب العالمية الثالثة يلوح في الأفق، حيث يقف العالم على شفا صراع كبير آخر، تغذيته التوترات المتصاعدة، وانتشار الأسلحة النووية، والسعي المستمر إلى اكتساب القوة العالمية من قبل الدول الكبرى.
الحرب الروسية الأوكرانية من جهة، والصراع الإقليمي في الشرق الأوسط بين المقاومة في غزة وإسرائيل من جهة أخرى، والذي قد يتوسع ويتكثف بسبب التصعيد الخطير. ناهيك عن الجبهات العديدة التي لم تفتح بعد؛ ولكنها لا تزال تمثل نقاط اشتعال، مثل نزاع الصين على السيطرة على بحر الصين الجنوبي لعمقه الجيوسياسي والجيوستراتيجي؛ وكذلك بحر الصين الشرقي والمشكلة الكبرى بين اليابان والصين حول جزر سينكاكو. وهكذا تشتعل جبهات متفرقة في أنحاء العالم، وتمتلئ الشاشات بالدماء، مما يشجع على المزيد من الصراعات.
وعلى الصعيد الاقتصادي، خضع المشهد الاقتصادي في أوروبا لإعادة تشكيل جذرية بفعل الأحداث الأخيرة، بما في ذلك وقف صادرات الغاز الروسية وزيادة التوترات مع الصين. وقد ساهمت هذه العوامل في التحول السياسي نحو اليمين في العديد من الدول الأوروبية، وهو ما يذكرنا بمقدمات الحرب العالمية الثانية.
بالعودة إلى حرب اليوم، من الواضح أنها حرب يسعى كل طرف فيها إلى إثبات قوته، حيث يقابل التصعيد الغربي بالتصعيد الروسي. على سبيل المثال، في حين كان من المحظور في السابق أن تضرب الأسلحة الأميركية داخل روسيا، سمح البنتاغون للقوات الأوكرانية باستخدام الأسلحة الأميركية لقصف روسيا نفسها، وليس فقط الأراضي المحتلة.
على العكس من ذلك، أصبحت “الكتلة” المعارضة للغرب، بقيادة الصين وكوريا الشمالية وإيران وروسيا، متماسكة بشكل متزايد: فقد وقعت روسيا اتفاقية استراتيجية شاملة مع كوريا الشمالية، وتحالفت مع فيتنام، التي زارها الرئيس الأميركي بايدن مؤخرا، في خطوة ينظر إليها على أنها معادية للصين.
بالإضافة إلى ذلك، تعمل معظم الدول الأوروبية على صيانة وتحديث وتجديد وتفعيل ترساناتها النووية. وبالنظر إلى “الخريطة النووية العالمية” نجد أن روسيا تمتلك 5980 رأساً نووياً، ناهيك عما تمتلكه أميركا وبريطانيا وفرنسا والصين وباكستان والهند وكوريا الشمالية، أي أن الترسانة النووية في العالم هائلة، حيث تمتلك تسع دول أكثر من 15 ألف رأس نووي، في حين أن 100 رأس نووي فقط من نوع واحد أو 0.2 ميغا طن قادرة على تدمير مساحة كبيرة، واستخدام أسلحة متعددة قد يؤدي إلى دمار كارثي يتبعه مرحلة إشعاعية تقتل مئات الآلاف من البشر، ثم شتاء نووي مدمر ينهي سنوات الوجود الأرضي تماماً، ويحجب الشمس ويجبر أي بشر متبقين على العيش في كهوف بعيدة.
بالعودة إلى الحرب الروسية الأوكرانية، من الواضح أن المعركة ليست مجرد نزاع على الأراضي بين كييف وموسكو، بل هي معركة بين قوة مهيمنة و”شعب” يريد أن يبقى العالم كما هو لخدمة مصالحه الاستراتيجية، و”آخرين” يريدون تحرير أنفسهم من النفوذ الاستعماري؛ مع طرف ثالث يراقب الحرب من بعيد ويريدها أن تستمر في السماح لأمريكا باستنزاف المزيد من أسلحتها ونفوذها ومصداقيتها في العالم، وهذا الطرف هو الصين.
لقد أصبح من الواضح أن الأسطول الصيني أصبح الآن أكبر من الأسطول الأمريكي وأن الصناعات العسكرية الصينية متفوقة وأكثر تقدمًا وأكثر حداثة من نظيراتها الأمريكية. مما لا شك فيه أن بكين لا تبني أساطيل إلا إذا كانت هناك إمكانية لاستخدامها.
وعلاوة على ذلك، من خلال مراجعة تصريح الرئيس الروسي فلاديمير بوتن بأن بلاده يجب أن تراجع “استراتيجيتها النووية”، نفهم أن استخدام الأسلحة النووية بالنسبة لروسيا سيكون عندما تكون الدولة “مهددة”، وليس إذا تعرضت الدولة بالفعل لهجوم بالأسلحة النووية. وهذا يعني أن الأسلحة النووية لم تعد ردًا على الهجمات النووية بل ردًا على التهديدات للدولة والنظام.
في النهاية، بعد مراجعة كل هذه السيناريوهات، يمكننا أن نستنتج أن الحرب العالمية الثالثة قد بدأت بالفعل: لقد دخلنا عقليًا في “مزاج” الحرب؛ إن الاحتمالات العقلية من المرجح أن تتحول بسرعة إلى احتمالات حقيقية بمجرد تشكيلها عقلياً.
وبالتالي فإن الشروط المسبقة للحرب موجودة، وستكون لحظة الزناد عندما تستخدم روسيا أو إسرائيل أسلحة تكتيكية، مما قد يؤدي إلى استخدام أسلحة نووية أصغر، ومن ثم قد تتصاعد الأمور…
وفي الختام، يبدو من المنطقي أن نسأل:
من سيحدد لعبة استخدام الأسلحة النووية؟
من سيتحمل العبء الأكبر من الدمار الواسع النطاق الذي سيلحق بالبشرية إذا استخدمت هذه الأسلحة؟
هل هناك أي مكاسب سياسية أو اقتصادية أو استراتيجية تفوق الخسائر الناجمة عن استخدام هذه الأسلحة، على مستويات مختلفة؟
ولكن السؤال الأكثر أهمية يبقى:
هل فكر أولئك الذين يسيطرون على “الأزرار النووية” في هذه الأسئلة؛ أم أن الهوس بالسيطرة على العالم أصبح بالنسبة لهم أكثر أهمية من وجود العالم نفسه؟”
—————————-
*أستاذة جامعية وباحثة سياسية