خاص “الدنيا نيوز” – دانيا يوسف *
“النابغة اللبناني عاد من البعيد ليرقد في وطنه. لبنان الجنوبي يزحف لاستقبال ابنه البار. موكب الجنازة في بيروت. صيدا بأسرها تمشي في الموكب. كيف استقبلت النبطية نابغتها؟”
من عناوين جريدة البيرق في 3 حزيران عام 1935.
عاد حسن كامل الصبّاح إلى وطنه ولكن على غير الصورة التي كان يأمل الأهل والمحبّون عودته بها. عاد في تابوت ليدفن في مسقط رأسه النبطية وليحرم الوطن من فوائد علمه.
كثيرون هم العلماء والنوابغ العرب الذين عاشوا في بلاد الغرب بعد أن وجدوا في تلك البلاد كل ما يحتاجون إليه لتطوير علمهم ومعارفهم. وحسن كامل الصبّاح أحد الذين شدّني الحديث عنهم خلال بحثي عن إنجازات العلماء المعاصرين في الوطن العربي. فهذا العالم الكبير كان ينوي العودة إلى لبنان وفي جعبته مشروع كبير للبلاد العربية لكنه قضى نحبه قبل يومين من وصوله إلى الوطن. وصار موته لغزا ما زال يتحدّث عنه الناس حتى الآن. فما الذي حدث معه؟
من هو حسن كامل الصبّاح؟
البحث عن حياة شخصية اختزنت في ثناياها ملامح متعددة ليس بالأمر اليسير لندرة الأشخاص الذي عاصروا هذه الشخصية من ناحية. ومن ناحية أخرى بسبب قلة المهتمين بالكتابة عن التراث العلمي الذي يخرج عن السياق الأدبي. ومن رواد هذا التراث حسن كامل الصبّاح. ومع ذلك اجتهد بعضهم على جمع وثائق ومعلومات من هنا وهناك للاضاءة على مختلف إنجازات هذا العالم. ومنهم الدكتور عباس وهبي مؤلف كتاب الفيلسوف العبقري حسن كامل الصبّاح.
ولد الصبّاح في مدينة النبطية سنة 1894، كان طموحه أن يصبح مهندساً عالمياً، لكنه كان لا يحبّ أن تكون ثمراته إلا لبلاده العربية في الدرجة الأولى.
النبطية في جنوب لبنان تلك الحاضرة التي شهدت أجواء استنارة دينية وقومية وعلمية مميزة. فيها تفتح وعي الصباح ونشأ وهو نفسه يتحدث في مذكراته عن ظروف نشأته إذ يقول:”كان خالي الشيخ أحمد رضا كثير الإلمام بدرس الحقائق الكونية وكان للغة العربية وآدابها المنزلة العليا في نظره. وقد زاد تلك الروح على من حولها من الأقارب لهذا كانت أمي وشقيقاتي مولعات بآداب العرب وأشعارهم وأصبحت أنا بحكم الطبع أنظر الى آداب العرب وعلومهم نظرة طموح وأمل”.
عبقري الرياضيات:
منذ صغره شغله علم الرياضيات والقضايا العلمية، وعندما أدرك طبيعة العلوم بعد انتقاله من المدرسة الابتدائية في النبطية إلى المدرسة السلطانية في بيروت ثم إلى الجامعة الأميركية عام 1914 لفتته النظرية النسبية فكتب فيها. وقد أظهر أثناء وجوده في الجامعة الأميركية في بيروت تفردا في مقدرته الرياضية وكان نجاحه باهرا. لذلك كتب أحد زملاءه عنه ويدعى الدكتور فؤاد صرّوف يقول: “جاء جامعة بيروت الأميركية طالب عاملي اسمر اللون، أسود الشعر، برّاق العينين ولم يلبث قليلا حتى شاع بيننا أن الطالب الجديد شيطان من شياطين الرياضيات فلم يترك فرعا من فروعها الا وأقبل عليه بلهفة وشوق”.
في عام 1914 بدأت الحرب العالمية الأولى بين قوات المحور ألمانيا، النمسا، بلغاريا وتركيا والدول الحليفة فرنسا، بريطانيا، اليابان والولايات المتحدة الأميركية لاحقا. وبدأ الأتراك في الأستانة يستدعون الشباب العرب للتجنيد الإجباري وجرى توزيعهم على سرايا مختلفة لتدريبهم على الأسلحة والقتال. فكان الصبّاح ممن دعي للخدمة العسكرية الالزامية فجنّد في 21 من شباط\فبراير عام 1916 برتبة ملازم.
وفي الأستانة أدخلته القيادة العامة للجيش التركي في سرية التلغراف اللاسلكي لعلمها بذكائه ومقدرته. وهذه السرية كانت تضمّ عددا من المهندسين والخبراء الألمان وفي رسالة بعث بها إلى أهله بتاريخ 7 حزيران\يونيو عام 1916 يقول الصباح:”حولي لفيف من شباب الأستانة ليسوا كما يجب ولست براض عنهم أنا ملتزم بالبحث العلمي بين كتبي وأوراقي وأنا على وشك اتقان اللغة الألمانية. واني أحصّل الفنون النظرية المتعلقة بالهندسة الكهربائية. وببركة رضاكم ودعائكم فقد حالفني التوفيق”.
وبعد انتهاء الحرب العالمية الأولى واحتلال الحلفاء الأستانة أطلق الأتراك سبيل الجنود فسرح الصبّاح من الجيش مع من سرّح ثم قدم دمشق فعينه وزير المعارف آنذاك ساطع الحصري مدرسا للرياضيات في مدرسة التجهيز للعام الدراسي 1918/1919. وبقي في دمشق حتى صيف عام 1920 وفي أوائل عام 1921 عاد الى بيروت حيث تلقته الجامعة الأميركية بالترحاب وعيّن أستاذا للرياضيات فيها. وبقي في الجامعة لعام دراسي واحد لكنه لم يكن ليروي غليل طموحه الدائم نحو أعلى مراتب العلم. فعاد الى بلدته النبطية وهناك تبلورت أمامه صورة المستقبل.
أميركا…مرحلة جديدة
وفي 10 آب\اغسطس عام 1921 امتطى الصبّاح الباخرة مغادرا الوطن حيث وصل مرفأ نيويورك في 14 تشرين الاول\اكتوبر عام 1921. وهناك التحق بمعهد ماسوشست الفني mit. وهذا المعهد كان يعتبر حينها من أهم معاهد الهندسة في العالم ولكنه عندما أراد دخوله رسميا لم يكن لديه شهادة تخوّله ذلك فأرسلته الادارة لامتحان فريد من نوعه حيث تولى كل استاذ من أساتذة الجامعة اختباره. فكان أن قبل أولا ثم أعفي من جميع الدروس الرياضية في برنامج المعهد. الأمر الذي لم يسبق له مثيل في تاريخ الجامعات والمعاهد الأميركية. وفي 10 تشرين الثاني\نوفمبر عام 1922 دخل جامعة اللينوي في قسم الرياضيات العليا وبقي في هذه الجامعة آب عام 1923 وكان قد عزم على دخول شركة جنرال الكتريك بولاية نيويورك التي هي من أهم شركات الكهرباء في العالم. وقد كتب الى خاله الشيخ أحمد رضا في اليوم التالي يقول:”أتيت توا الى مركز شركة جنرال الكتريك ولم أنتظر أو اقف على الباب بل ذهبت رأسا الى شعبة البحث والتنقيب وارتبطت مع الشركة كي أشتغل كمعاون طبيعي في قسم الانابيب الكاثولية في المختبر الهندسي العام حيث أكتسب الخبرة الفنية اللازمة في مدة ستة أشهر وبعد ذلك أبدأ العمل كمهندس مستقل في الشركة. وقد اعتبرتني الشركة من حاملي شهادة الهندسة الكهربائية”.
وما ان التحق الصباح بالشركة حتى بدأ نجم شهرته بالتألق وبدأ يستنبط كثيرا من الأجهزة والآلات والطرائق الجديدة في عالم الكهرباء.
ومما زاد في شهرة الصبّاح أن شركة جنرال الكتريك سجلت معظم اختراعاته في شتى دول العالم كي لا يحق لأحد استثمارها الا الشركة. وتعددت شهادات علماء الغرب وزملاءه في الشركة في أفضلية مبادئه العلمية فنجد مثلا مدير الشركة “ميرسي” يقول:”لقد برهن حسن كامل الصباح أنه أعظم وألمع المفكرين الرياضيين في البلاد الأميركية”. مهندس آخر يدعى آلن قال عنه:”دماغ الصبّاح يشتغل دائما وهو يحوي قدر خمسة أدمغة”. ويؤكد زميل له أيضا في الشركة اسمه براون أن حسن كامل الصباح كان دائما يفتخر أمامهم بعروبته. وهذا ما جعل الحقد والحسد يسيطر على بعض زملائه في الشركة. هذا ما عبّرت عنه رسالة للصباح الى ذويه جاء فيها:”اني ما زلت في صراع دائم، وظهر لي ضدان أحدهما بريندز والآخر الكسندر سن. وقد أخرجت مستنبطات تفوق مخترعاتهم وهما يحاولان الآن قتلها بما لهما من نفوذ لأنهما من أكبر مهندسي الشركة”.
اختلفت المصادر حول الإنتاج العلمي للصبّاح فالأديب يوسف مروّة يؤكد فقي كتابه:”عبقري من بلادي” أن مجموع الاختراعات التي قام بها هي 76 اختراعا حصل على نسخ منها من مكتب التسجيل في واشنطن”. أما الدكتور عباس وهبي والأستاذ سعيد الصبّاح فيشيران الى وجود 52 اختراعا منها 37 اختراعا أنجزها الصبّاح منفردا و15 بالتعاون مع زملائه في شركة جنرال الكتريك.
وكان الصباح وهو يحصد النجاح تلو النجاح، دائم التفكير بوطنه وهو الذي حلم بجعل العالم العربي جنة مضيئة. ومما كتبه في رسالة لخاله الشيخ أحمد رضا:
“وأعلمك يا خالي من خلال رسالتي هذه أنني بعون الله وحده تمكنت من استنباط بطارية كهربائية ثانوية يتولد بها حمل كهربائي بمجرد عرضها للشمس ولبيان ماهية هذه البطارية أقول: إذا حمّلنا البطاريات بالحمولات الكهربائية من أشعة الشمس بالصحراء العربية نكون كأنما عثرنا على آبار بترول. فأرجو منكم يا خالي أخذ كلامي بعين الاعتبار ومساعدتي بالوصول الى أهل الحل والربط في الصحراء العربية لتنفيذ المشروع”.
وفي 25 كانون الثاني\يناير عام 1933، قررت مؤسسة المهندسين الكهربائيين الأميركيين في نيويورك منح الصباح رتبة “فتى العلم الكهربائي” وهذه الرتبة من أعلى الرتب في علم الكهرباء وهي لا تعطى الا لمستحقيها بعد درس وبحث طويلين عن مؤهلات الشخص ودراسته واختراعاته. وفي هذه الأثناء، كان الشيخ أحمد رضا يستكمل مساعيه مع الأمير شكيب ارسلان الأديب والسياسي اللبناني بشأن عودة حفيده الى الوطن. وكانت ثمرة هذه المساعي موافقة الملك فيصل على تبنّي مشاريع حسن كامل الصباح بكاملها وخاصة مشروع الطاقة الشمسية.
سرّ حسن كامل الصباح بهذا الخبر وبدأ يجهز نفسه للعودة الى الديار ولكن حصل ما لم يكن متوقعا. مفاجأة لم تكن في الحسبان وكادت تنسف حلم حسن. توفي الملك فيصل الأول وبدأ الاحباط ينفذ الى قلب حسن وبدا ذلك واضحا في رسالة أبرقها الى الأهل:”الآن خبت مطامح نفسي وأخذ الحزن والأسى يلتهمان آمالي الزاهرة بمستقبل مجيد.”
ولم يمض أسبوع حتى عاد حسن كامل الصباح الى سابق عهده من النشاط والعطاء. وتجدد حلم عودته الى أرضه العربية وبناء معمل للطائرات اذ يقول في رسالة أخرى للأهل:”اني سأقتصد المقدار الكافي من المال لاتقان فن الطيران وعمل الطائرات وأتوجه الى المملكة العربية السعودية أو الى العراق وأوسس هناك معملا للطائرات وهذا يستغرق مقدار سنة أو سنتين وبهذه الوسيلة أتمكن من تحطيم نير الظلم والاستعباد الذي يكبلني به القوم هنا.”
وهكذا شرع الصباح يعدّ العدّة للعودة الى بلاده وبدأ الأهل يترقبون قدومه بفارغ الصبر.
بعد ظهر الاحد الواقع فيه 31 من آذار عام 1935 ذهب الصبّاح مع صديقين له من الأمريكيين بسيارتهم الخاصة الى مدينة مالون الواقعة شمالي نيويورك ليدفع القسط الأخير من ثمن طائرة كان قد اشتراها وليسترجع سيارته المودعة تأمينا لدى شركة الطائرات. ثم قفل راجعا يقود سيارته الخاصة ورفيقه بوغل وزوجته خلفه بسيارتهما الخاصة أيضا. ولكن ما ان تقدماه بضعة أميال حتى لحظا انه أبطأ ولم يظهر. فانتظرا برهة فلم يصل. عندئذ أدارا مقود سيارتهما ورجعا يفتشان عنه على جانبي الطريق واذا بهما يبصران سيارته وقد تدهورت في واد سحيق.
قضى الصبّاح نحبه بعد أربعة عشر عاما أمضاها في الغربة تاركا بعد وفاته أكثر من علامة استفهام لدى الكثيرين. فهناك رسالة كتبها لأهله جاء فيها: “انني أجتاز الآن مرحلة صعبة خطيرة أسأل الله أن ينجيني منها فادعوا لي لأن دعاءكم ورضاكم قد يخلصانني من أعدائي الألداء الذين يكيدون لي دائما ويسعون لزحزحتي من طريقهم”.هذه الرسالة وغيرها عزّزت الشكوك لدى الكثيرين في أن حادثة الوفاة ليست قضاء وقدرا وأن هناك لغزا ما لا بدّ من كشف اللثام عنه.
في كتاب يوسف مروّة:”عبقري من بلادي” يؤكد ان موت الصبّاح كان نتيجة مؤامرة دبّرت. وفي تعليق آخر على حادثة موته يقول سعيد الصبّاح في كتابه “عالم من بلادي”:”انها ظنون وافتراضات وتصورات تحتاج الى دليل وفي حالة وفاة الصبّاح لا يوجد دليل على أن هناك جريمة كامنة وراء هذه الوفاة”.
كتب ايليا أبي ماضي في مجلة السمير النيويوركية عن الصبّاح:”يكبر شأن ذي الموهبة ويصغر لا على قدر موهبته بل على قدر ما في بيئته وزمانه من الاستعداد لتقدير تلك الموهبة واستغلالها. جئنا لندلّ قومنا على نابغة كبير، على عبقري لو كان فرنسيا او انجليزيا أو أميركيا لكان اسمه ملء الأفواه وسيرة حياته ملء الكتب. فمتى نصير نحن نعرف للموهوبين أقدارهم؟”
تلك ملامح سريعة من شخصية حسن كامل الصبّاح العربي اللبناني العالم والإنسان انه وإن غاب عن المكان فهو في زمن المبدعين لا نهاية له. ذلك لأن المميزين هم خالدون بما أبدعوا وقدموا للبشرية.
——————————
رئيسة القسم الثقافي في “الدنيا نيوز”.