فلسفة النكتة في ثقافات الشعوب (2)
خاص “الدنيا نيوز” – دانيا يوسف*
تقنية النكتة
الغريب أن النكتة كشكل أدبي مكثف يتداوله العامّة ولا يتداوله المثقفون الا فيما ندر! ويؤلفه العامة ولا يؤلفه المثقفون ! لذا تجد مؤلفيها منزوين خلف نصوصهم ، مغمورين وغير معروفين ، فلحظة التأليف لحظة غائبة عن المؤلف الغامض ، غير مقصودة بدلالتها الفنية ولا الحسية والجمالية ، تشبه إلقاء قنبلة يدوية وسط حشد من المارّة . تشبه أيضاً صخب مفرقعات وسط حي شعبي جدرانه وأبوابه متقاربة . بهذه التشكل اللا مقصود تتنامى النكتة فجأة من دون تحضير مسبق لقائلها وكأنه سمعها من غيره لا شعورياً وهذا اللاشعور هو نتاج اجتماعي منضغط تحت قهر واستلاب جماعي يفرز غضبه بقفشة ذهبية لماحة تعتمد الإيجاز الدقيق والمفارقة بكل أنواعها الاجتماعية منها والسياسية والاقتصادية .وعندما وضع سيجموند فرويد كتابه ( النكنة وعلاقتها باللشعور) قال بأول قواعد النكتة من أنها « ترضي غريزة من الغرائز فهي تزيل من طريقها عاتقاً مهدداً» فالنكتة هي فكرة موجودة في المنطقة التي يسميها فرويد «اللاشعور» تنزلق لحظة الى اللاشعور تحت ظرف ما فتؤلف نفسها.
النكتة تقنية شعبية كما يصفها استاذ علم الإجتماع سالم ساري ، والتقنية الشعبية غير محكومة بأخلاقيات المنهج النقدي وضوابطه بل هي إفراز طبيعي لمعاناة الناس واحساسهم بالاضطهاد والعزلة والتهميش . هذه التقنية غائبة عن الأدبيات الثقافية مع أن الكثير من الكتب العربية والأجنبية تناولت النكتة شرحاً وتحليلاً ، إلا أنها لم تتكرس كنمط أدبي ذي فاعلية ثقافية في مستجدات الحداثة ، وكما أشرنا فإن مؤلفها غائب دائماً وغير معروف أساساً ، لذا يتوجب الحرص الكثير على تدوينها فهي النص الوحيد الذي لم يدوّن بالشكل المناسب ولم تلقَ عليه الأضواء النقدية المطلوبة بفرضية أن النكتة سلاح بيد الشعوب المقهورة تشرعها متى ما أرادت تعبيراً عن كل ما يمس حياتها اليومية.
النكتة هتاف الصامتين
تشكل النكتة جزءاً من التراث الشعبي للشعوب كافة يمكن استخلاص طبيعة المجتمعات منها وظروف حياتها والنوع السياسي والاجتماعي السائد فيها ، لذا فهي ملح الشعوب وفاكهة جلساتها ؛ والنكتة العربية لها فرادة في هذا الموضوع لاسيما بشقها السياسي الحاذق وسماها عالم الاجتماع د. سيد عويس « هتاف الصامتين» والنكتة السياسية منتشرة في أرجاء العالم ، فالشعوب تتشابه في محنتها في كثير من الأحيان وتخضع لذات الظروف الكابوسية التي تعيشها ؛ لكنها تختلف في طريقة طرحها من شعب الى آخر تعبيراً عن ظلم وقهر أو حتى تعبيراً عن استرخاء عام وهذا يدخل في الباب الاجتماعي منها . نكتة التيئيس
ثمة نكتة عربية تحكي عن زعيم عربي رسم (وشماً) على ذراعه يصور خريطة فلسطين المحتلة، وعندما سُئل عن السبب قال (حتى لا أنساها) فسألوه: وماذا تفعل لو تحررت فلسطين وهذا الوشم لا يُمحى؟ فأجاب (أقطع ذراعي)!
هذا النوع من التنكيت افراز ظاهري وباطني لحالة سياسية عربية نعيشها منذ خمسة عقود ، ولاشك أن هذا النوع منها هو لإشاعة اليأس والنظر الى الحياة من وجهها الآخر ، على اعتبار ان النكتة تعبير لقياس اتجاهات الرأي العام وملاحظة نمط تفكيره في الحاضر والمستقبل ، وبطبيعة الحال أن الكثير من القفشات السياسية تعبّر عن زاوية نظر اجتماعية ناقدة وناقمة على وضع سياسي يترنح تحت وطأة عوامل مختلفة وما تنتجه من افرازات اجتماعية واقتصادية .
وهذا تلوين نكتوي سياسي من نوع آخر يضرب على وتر المتملقين والكذابين من السياسيين الذين يستخفون بعقول الآخرين :
اصطحب خروشوف مرة ضيفه ومعه كبار المسؤولين لزيارة غابات موسكو ليمارس خروتشوف هوايته في الصيد، وليبين مهاراته العالية في ذلك، وتقول النكتة، إن وزير الإعلام أمضى أكثر من ساعة، وهو يتحدث للضيوف عن مهارة الرئيس السوفيتي في الصيد، ومن إنه لم يُخطئ ولا مرة واحدة في حياته، ولن يحدث مثل ذلك على الإطلاق، وداخل غابات موسكو، سدد خروتشوف بندقيته صوب أحد الطيور التي حلقت على مقربة منه، وانطلقت رصاصاته دون أن يسقط الطير، فأطلق وزير إعلام خروتشوف تصريحه الفوري قائلاً: لأول مرة بالتاريخ يواصل طير رحلته في الطيران وهو مقتول! ولا شك ان الشعب المصري هو أكثر شعب عربي يتعاطى النكتة السياسية ويؤلفها وينشرها بسرعة بديهته وحبه للنقد العام وقد انتبهت بعض مراكز الأبحاث والدراسات في الانتباه إلى أهمية النكتة لذا قام مركز (الدراسات والبحوث النفسية) بدراسة حول النكتة وأهميتها وخطورتها لترشح له نتائج اجتماعية وسياسية واقتصادية هي عادة ما تشغل الشعب وتجعله ناقماً على السلطة السياسية ، وشاعت بعد هزيمة حزيران عام 1967 الكثير من النكات اللاذعة التي أفصحت عن آلام جماعية لشعب شعر أنه هُزم من الداخل ولم يكن المصريون أيامها يؤلفون النكت علي الهزيمة فحسب؛ بل كانوا أيامها يحورون الأغاني، ولعل أشهرها تحويرًا أغنية الفنانة «شادية»: “قولوا لعين الشمس ما تحماشي، أصل الجيش المصري راجع ماشي”.
وقد ترددت نكتة سياسية قوية في إحدى دول أوروبا الشرقية في السبعينات تقول: إن القيادة استدعت عدداً من صانعي الأحذية العالميين، من أجل تفصيل حذاء للرئيس… وهنا سارع إسكافي إلى القول بأنه على استعداد لتفصيل الحذاء، وفق المواصفات المطلوبة ودون الحاجة إلى أخذ مقاسات قدم الرئيس، وأنه مستعد لدفع حياته إذا ما أخفق في هذا الرهان. وبعد وقت قصير، عاد إليهم ومعه الحذاء المطلوب، وقد دهش المسؤولون حين وجدوا أن الحذاء على المقاس تماماً.. ولأجل حل اللغز قالوا إنهم لن يعطوه الأجر، حتى يكشف لهم كيف عرف مقاس قدم الرئيس وبدون قياس. فقال على الفور: وكيف لا نحفظ مقاس قدم سيادته وهي فوق رقابنا منذ أكثر من ثلاثين سنة!
—————————-
* رئيسة القسم الثقافي في “الدنيا نيوز”.