فلسفة النكتة في ثقافات الشعوب … (1)

 

خاص الدنيا نيوز – دانيا يوسف*

 

قيل أن الرئيس الراحل جمال عبد الناصر كان يخشى النكتة لكنه يحرص على سماعها وكانت لديه وحدة في المخابرات، تُعنَى برصد النكات لمعرفة ما يفكر به المصريون ؛ وقيل أن السادات لديه جهاز خاص لجمع النكات اليومية التي يقولها الشارع المصري.
كثير من الرؤوساء والزعماء تهزهم نكتة الشارع وآخرون فرضوا الطوق عليها وغيرهم كمموا أفواه قائليها بالنار والحديد! البعض يسمعها سراً ليرى اتجاهات المجتمع عبر سرايا خاصة تجمع ما تقوله العامّة . فكان لصدام حسين أذن سرية تستقطب النكتة وتحللها ولكنها تحاسب عليها بقسوة ، فيما خَلفهُ جلال الطالباني يقول النكتة التي تقال عنه علناً وأمام شاشات التلفزيون حتى وإن كانت مسيئة له شخصياً !
دخلنا من الباب السياسي دون قصد ، فالنكتة كانت وليدة المجتمعات البكر تعبيراً عن فكاهة وفرفشة وبحثاً عن قفشة بإطار كوميدي نافذ ولاسع في كثير من الأحيان . غير أنها مع الزمن خرجت من براءتها لتكون سلاحاً آخر تستخدمه الشعوب وتشيعه المعارضة وتتولاه الألسن بخوف وخشية وسرية أحياناً وعلناً وبصرامة في أغلب الأحيان . فالنكتة هي ملخص فكرة ، مكثفة الى أقصى حدود التكثيف ، تطال الجميع بلا استثناء لاسيما الأنظمة الدكتاتورية والمتسلطة ورموزها الحاكمة . ولم يسلم منها رجال السياسة ولا رجال الدين ولا رجال الفكر والثقافة.
أن نضحك يعني أن نتلقى إيعازاً بذلك في أقل الكلمات وأمضاها وأكثرها قدرة على ايصال المعلومة والهدف الأساسي منها ، وقد يكون هذا الإيصال بطريقة المبالغة أو الخيال أو التسطيح حتى ، لأن النكتة وليدة ظرفها وحالتها كنص مؤلَّف من واقعة محددة الهوية أو جملة وقائع مركبة تمس صميم المجتمعات ، لذا لن تجد للنكتة مؤلفاً ، وهي النوع الوحيد الذي يقوم بتأليف نفسه . لا يوجد مؤلف لنص النكتة فهو غائب على الدوام ، يتوارى عادة تحت أغطية المجتمع . وهذا الأخير يقوم بإشاعتها قصداً كلما وجد الحاجة قائمة وماسّة للتعبير عن مكنوناته وإحباطاته النفسية والسياسية . إنها مثل كرة الثلج المتدحرجة بين الناس ، تؤلَّف مصادفة وتكبر بين الآخرين كلما تداولتها الألسن وتنتقل بين الشرائح الاجتماعية وتعبر الأقاليم والقوميات واللغات والفئات والطوائف.
نص إبداعي
يفترض بعض الدارسين أن النكتة نص ابداعي سردي قائم بذاته لكنه بتركيبة أدبية لا تشبهها تركيبة أخرى من حيث الكثافة اللغوية والضغط السردي الكبير والاختزال الواقعي والخيالي معاً . وهي عمل درامي منفرز من ازمات اجتماعية ونكوصات سياسية له قوة التأثير الجمالي كما هو شأن بقية النصوص الأدبية ذات الوقع الفني الآسر . والنكتة لا شكل لها سوى الكثافة النصية واختزال اللغة ، وقد حاول البعض زجها في خانة أدب السخرية بوصفها نتاجاً عفوياً قادراً على الإمتاع والمؤانسة والنقد الساخر، ونحن لا نرى ذلك ممكناً سوى أنها شكل عفوي لا يرتبط بنظريات أدبية بقدر ارتباطه بذاته كنص مختزِل لشؤون ومواقف كثيرة في الحياة ، يتنقل في مسارب المجتمع وبين شرائح اجتماعية مختلفة لها قابلية احتضانه وتشكيله ثانية وإعادته الى الحياة الاجتماعية بحمولات جديدة ربما اذا انتشر بين الشعوب ولغاتها وثقافاتها. وبهذا الصدد قال الكاتب الساخر علي سالم ذات مرة “أنا أكتب أدبا ساخرا، ولكنني لا أستطيع كتابة نكتة، وأكاد أجزم أن أحدا لا يعرف كيف تكتب النكتة أصلا، ولا أحد يعرف من أين تأتي، وإن كان البعض قد وضع تصورات لكيفية تطورها وانتقالها، أو كيفية ترجمتها من لغة إلى أخرى”.

———————————

* رئيسة القسم الثقافي في “الدنيا نيوز”