بِقلم العميد مُنذِر الايوبي*
لم يكن قرار انسحاب القوات الفرنسية من دولة مالي الافريقية امرآ مفاجئآ، إذ سبق وتدهورت العلاقات مع الاليزيه بشكل تراكمي وصولا الى الغاء الاتفاقيات الدفاعية الموقعة معها وشركائها الاوروبيين، خلال شهر ايار من العام الماضي وعلى خلفية “الانتهاكات الصارخة للقوات الفرنسية المتواجدة في البلاد للسيادة الوطنية”، لا سيما انتهاكات سلاح الجو الفرنسي المتكررة للمجال الجوي المالي بالرغم من إغلاق السلطات المالية لقسم كبير من اجوائها، اصدر المجلس العسكري الحاكم الذي تولى السلطة في شهر آب 2020 اثر انقلاب عسكري قرار الغاء هذه الاتفاقيات دليلآ اضافيآ على التهاب غير مسبوق في حبل السُرَّة الاستعماري الذي يجمعهما…!
وُقِع البروتوكول الدفاعي الفرنسي-المالي اوائل شهر شباط 2014 الذي اطلق عمل قوة “برخان” Barkhan “نسبة الى اسم الكثبان الرملية التي تأخذ شكل هلال في الصحراء الكبرى) حيث نفذت عمليات مناهضة للمتمردين الماليين، كذلك ضد الجهاديين المنتمين الى التنظيمات الاسلامية المتطرفة في منطقة الساحل الافريقي، والاخيرة تضم المستعمرات الفرنسية السابقة: “بوركينا فاسو- تشاد- مالي- موريتانيا- النيجر”. G5 Sahel. يشار الى ان هذه القوة المؤلفة من 5000 عنصر دعمت بفرقة Takuba الاوروبية التي وضعت في حينه تحت امرة القيادة الفرنسية، مهمتها تقديم المشورة والمساعدة للقوات المسلحة المالية..!
تاليآ؛ تصاعد التوتر بين الجانبين لا سيما لجهة التعاون العسكري منذ شهر حزيران 2021، عندما علقت قيادة القوة الفرنسية عملياتها العسكرية المشتركة دون اي تشاور او تنسيق مع قيادة القوات المالية، في خرق لبنود الاتفاقيات وسلوك آحادي وضع في خانة التقصير الخطير والمتعمد.. تبع ذلك طرد السفير الفرنسي Joel Meyer في كانون الثاني 2022 على علة تصريحات مسؤولين فرنسيين وصفتها دوائر العاصمة ياماكو ب(العدائية)..
في قراءة للاسباب المباشرة والغير مباشرة كما التداعيات يتبين أن إنهاء التواجد العسكري الفرنسي غير طوعي، تمثل: سياسيآ؛ بتصريح رئيس الوزراء المالي الذي تضمن واشار الى حجم الخلاف : -عندما أبلغنا فرنسا رفضنا إملاءاتها قررت الانسحاب من اتفاقيات التعاون وسحب قواتها. الفرنسيون كانوا يعتقدون أننا سنتوسل إليهم لإبقاء قواتهم ببلدنا لكننا لم نهتم بالخطوة. -لقد قرروا المغادرة بعد تعيين رئيس ورئيس وزراء جديدين لا يروقا لهم. إيجازآ “فرنسا أرادت أن تفرض علينا رؤيتها وما ينبغي أن نفعله وقلنا لها إن هذا العصر قد ولى”.
ميدانيآ، عمليات عسكرية محفوفة بالمخاطر في بيئة معادية اضافة الى خسائر في الجنود والعتاد بما يفوق المتوقع؛ استخباراتيآ؛ معلومات دقيقة وأدلة تشير الى تواصل جهاز المخابرات الخارجية الفرنسي DGSE مع بغض المجموعات الارهابية واتهامه وتورطه في عمليات تخريب كما تأسيس خلايا تجسسية..!
في الفراغ الاستراتيجي حافز على التوازن الاقليمي،، *صمت فرنسي توازى مع تقرب المجلس العسكري من الاتحاد الروسي الذي يعتمد عليه. *استعانة السلطات المالية بخدمات مجموعة “فاغنر” الروسية الخاصة المثيرة للجدل. *ومحادثات مباشرة بين السلطات الانتقالية والجهاديين لفتح صفحة جديدة بينهما..
في التحول الاستراتيجي؛ -يعتبر تسميم العلاقات قد بني على خلفية النظرة الفرنسية الاستعمارية وان ظُهِرت كفاحآ بين حليفين حاربا تمدد الداعشيين والجهاديين معآ. -ينظر الى الخروج والانسحاب العسكري الفرنسي من مالي والذي قد يصيب بالعدوى دول منطقة الساحل على انه تتويج للفشل الاستراتيجي. -ليس في خانة المبالغة الارتياح الاميركي لتراجع الدور الفرنسي، اذ ان الولايات المتحدة ستتكفل بتحقيق التوازن الجيوسياسي كما توطيد مظلتها الامنية بوجه تطور العلاقات الروسية والصينية مع بعض الدول الافريقية..!
في السياق؛ لم تعد القارة السوداء مساحة استعمارية استراتيجية لباريس تسمح باستغلال ثرواتها وفرض املاءاتها، اذ كان علامة لافتة ومؤشر مستقبلي لما ينتظرها عندما طلب رئيس الكونغو Felix Tshisekedi من نظيره الفرنسي ايمانويل ماكرون اثناء مؤتمر صحفي مشترك (عدم التعامل بسلطوية مع الافارقة). مستطردآ (عليكم ان تتعاطوا معنا باحترام).
ومن البيت الاوروبي قصفت رئيسة وزراء ايطاليا جورجيا ميلوني الرئيس الفرنسي وسياسته بقذائف من العيار الثقيل، اذ قالت خلال لقاء شعبي “ماكرون لا تأتي لتقدم لنا دروسًا في حين أنكم تستخرجون 30% من اليورانيوم اللازم لتشغيل مفاعلات فرنسا من النيجر، بينما 90% من سكانها يعيشون بلا كهرباء. لقد قصفتم ليبيا فقط لأنكم لم تريدوا أن تتمع إيطاليا بعلاقات جيدة مع القذافي.
تستغلون الأطفال الافارقة في المناجم، وتسكّون العملة لـ14 بلدًا أفريقيًا وتفرضون عليهم رسومًا إجبارية. فرنسا واستغلالها سبب كبير في هجرة الأفارقة وتوجههم نحو أوروبا، الحل ليس إعادتهم إلى بلادهم، بل إخراج بعض الأوروبيين من أفريقيا. أنت هو المُقرف يا ماكرون، أنت من يستحق أن يوصف بعديم المسئولية وليس نحن”..!
في الختام؛ رغم ان الفرنكوفونية هيمنت تاريخيآ على افريقيا وصبغتها بثقافتها، الا ان الامور تفلت من يد باريس في خضم التحولات الجيوسياسية والتحديات الاقتصادية كما التنافس على موارد الطاقة الخ..! اما استراتيجيآ فالمعركة وجودية وتكاتف الاتحاد الافريقي على خلفية انهاء الميراث الاستعماري امر ملحوظ، انها ثورة بيضاء واضحة المعالم..!
بيروت في 11.03.2024
