الحرب النووية الشاملة … بين الانزلاق والتوقيت!
بقلم : العميد مُنذِر الايوبي
لم يعد سؤالآ مطروحآ حول الثابت الرياضي “النسبة الذهبية” Golden Ratio لحصول حرب شاملة على على ارض القارة العجوز (اوروبا) او على المستوى العالمي الشامل.. في زحمة دراسات وتوقعات لمحللين استراتيجيين وسياسيين يستشرفون آفاق الوضع الدولي وتطورات العملية العسكرية للقوات الروسية في اوكرانيا، تصدرت نظرية او اعتمدت عبارة الخشية من “الانزلاق نحو حرب عالمية ثالثة”، ربما تكون الاخيرة على سطح الكوكب ..
في مفهوم “الانزلاق” بشكل عام، انه حدث لا ارادي قد يحصل سبب عوامل طبيعية او اخطاء بشرية في مؤداه وصول الى اوضاع ونتائج غير محسوبة او خارجة عن الاهداف المرتجاة..
على خلفية تفاقم وتدهور متدرج للوضع الجيوسياسي والعسكري سيما بعد استهلاك البند A في خطة المواجهة مع روسيا او قصور نتائجه خلافآ للمتوقع المتضمن عقوبات اقتصادية قاسية، مع امدادات غير محدودة بالمال والعتاد والسلاح لاوكرانيا؛ انتقل حلف شمال الاطلسي NATO والولايات المتحدة الاميركية الى البند B في خطة المواجهة على سبيل المثال لا الحصر: *محاولة ضعضعة الوضع الداخلي سواء شعبيآ سياسيآ وامنيآ. **اطلاق المناورات البحرية الأمريكية اليابانية ذات الطبيعة الهجومية على الحدود الشرقية لروسيا. ***إشعال بؤر التوتر والالهاء لا سيما في القوس الشرقي الآسيوي “ارمينيا- اذربيجان الخ..” الحديقة الخلفية لروسيا هدف استنزاف القوى وتحويل الجهد العسكري كما ارباك الكرملين او قيادته . الخ..!
من هذه المنطلقات تسقط كلمة “الانزلاق”، فالامور بمقاصدها “اي بالقول والفعل” تجاوزت الخط المرسوم وقرار المواجهة الشاملة ملموس غير مستبعد او محيد؛ اذ ان الرئيس الروسي فلاديمير بوتين على قناعة تامة واضحة ان ما يجري ابعد من تضامن حلفاء او رد فعل غربي على عملية عسكرية تشنها قواته، كان بالامكان تفاديها بالمفاوضات والحوار الديبلوماسي، لولا تعنت الرئيس الاوكراني فلوديمير زيلينسكي المحاط بمجموعة استخباراتية متطرفة غير بعيدة عن “لانغلي” Langley-Fairfax تضمن وتشرف على خططه وسلوكياته، مدفوعآ بتحريض غربي تسبب باحراق بلاده وتدميرها رغم كل التبريرات السيادية والاستقلالية ” إذ لا مكان للعنجهيات في ناموس الاستراتيجيات، فديناميكية التعامل او التفاعل ذات صفة “اوتونومية” Autonomy تلقائية استقلالية والبراغماتية تحكم..!
تاليآ؛ في استبعاد الزلل بات يصح السؤال عن “التوقيت” المتوقع للمعركة الكبرى كما نوعية الاسلحة البنيوية المستخدمة.؟ هل سيدخل السلاح النووي الاستراتيجي او التكتيكي ساحة المعركة لتُختصر في الزمان والمكان ؟؟ ما يضمن انتصارآ وإن مؤلمآ لطرف وهزيمة قاتلة لآخر..! منذ 24 شباط الماضي تاريخ بدء المعركة او الغزو الروسي شكلت اوكرانيا ساحة اختبار للاسلحة البرية البحرية والجوية لطرفي الصراع؛ اضافة الى امتحان السيطرة والكفاءة في ادارة المعارك وسرعة التكيف مع المستجدات، زائد تقييم التنسيق العملاني بين وحدات القتال المتنوعة المشاة، المدرعات، الدعم المدفعي والصاروخي كما فعالية ضربات المسيرات والغطاء الجوي..
من مبدأية العقيدة العسكرية ان “لا هزيمة لروسيا” سواء في اوكرانيا او غيرها ولا تهاون في امنها القومي؛ اتى قرار الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بدء التعبئة العسكرية الجزئية متزامنآ مع تحذيرات اطلقها وزير الخارجية سيرغي لافروف بامكانية فتح صوامع الصواريخ النووية البالستية والعابرة اذا دعت الحاجة، ليؤكد ويجيب على تساؤلات ومخاوف الغرب ودول الناتو حول مسألة “التوقيت” وبالتالي يرفع درجة الحذر من مدى وقدرة الاستجابة الاوروبية لآلتها الحربية في الصد والرد المباشر..!
في هذا الاطار، سجل اختصارآ مؤشرات عدةً تدخل في خانة التهديد وتقارب التوقيت (الساعة صفر).
١- نائب سكرتير مجلس الأمن القومي الروسي رشيد نورغالييف: “ان أي أسلحة بما في ذلك النووية منها يمكن استخدامها للدفاع عن أراضينا”.
٢- ديمتري ميدفيديف نائب رئيس مجلس الامن القومي الذي يرأسه بوتين شخصيآ: “موسكو ستستخدم كل سلاح في ترسانتها، بما في ذلك الاسلحة النووية الاستراتيجية لحماية الأراضي التي تنضم إلى روسيا”. بالتزامن بثت محطة RT روسيا اليوم تعليقآ “ان الحرب النووية مرجحة”.
٣-الرئيس الأمريكي جو بايدن حذر نظيره الروسي من مغبة استخدام أسلحة كيميائية أو نووية في خضم تراجع قواته في أوكرانيا. مؤكدآ أن ذلك سيتسبب
في تغيير “وجه الحرب بشكل لا مثيل له منذ الحرب العالمية الثانية”
٤- رئيس صربيا ألكسندر فوتشيتش: “الوضع الجيوسياسي يتدهور والكوكب سيشهد صراعًا عالميًا”
٥- حلف الناتو يُهدد: على” روسيا إنهاء الحرب فوراً والانسحاب من أوكرانيا ويحذر من استخدام السلاح النووي”.
٦- رئيس الوزراء البلجيكي الكسندر دي كروو: “يحث دول الاتحاد الأوروبي على الالتزام بالهدوء وعدم استفزاز روسيا وصب الزيت على النار”.
٧- الرئيس الاوكراني اعرب عن اعتقاده ان بوتين سيستخدم السلاح النووي…
٨- حلف شمال الاطلسي يطلق تدريبات مشتركة في بحر البلطيق لمواجهة التهديدات الروسية. الخ..!
٩- الأمين العام للناتو “ينس ستولتنبرغ” يؤكد على وحدة الحلفاء في أميركا الشمالية وأوروبا معتبرآ تهديدات بوتين النووية متهورة..
١٠- المستشار الألماني أولاف شولتز: “لا يمكن لروسيا أن تكسب الحرب الإجرامية في أوكرانيا وإعلان بوتين التعبئة الجزئية تعبير عن يأسه”.
١١- وزير الدفاع البريطاني “بن والاس”: إن إعلان روسيا تعبئة القوات يعدّ اعترافا من رئيسها بأن “غزوه يفشل”..!
١٢- في خطوة لافتة ضرورة اخذها بعين الاعتبار لمقاربتها التوقيت لا الانزلاق، عمد جهاز الدفاع المدني في بولندا الى توزيع حبوب اليود مجاناً لمواجهة كارثة نووية محتملة..!
من جهة اخرى؛ ؛ العقل البارد لدى الرئيس بوتين ليس صقيعآ متجمدآ، اذ يتعامل بهدوء لافت مع تطورات الميدان واداء اعداء بلاده السياسي والاستراتيجي، سلوكيات قيادة لا يمكن انكارها تمتاز بنقطة وصل بين السياسة والاستخبارات، تمنحه قدرة على ضبط النزعة القتالية رغم تلمسه كفاءة محدودة غير متوقعة لدى قواته.. معتبرا ان حرب الاستنزاف وفخ الاستدراج الى المستنقع الاوكراني ذات انعكاسات وعواقب على القوى الاطلسية الاوروبية والاميركية ايضآ.،!
ان تحذير روسيا من خطر نشوب حرب عالمية ثالثة لا يمكن التقليل من شأنه بعد الآن، كما لا يمكن الاستهانة بالمخاطر المتزايدة لوقوع المواجهة النووية ما يؤكد تحولآ استراتيجيآ عسكريآ روسيآ في ادارة الحرب.. ان ضم مقاطعات دونيتسك، لوغانسك وخيرسون الى التراب الروسي بعد استفتاءات بالتزامن مع اعلان التعبئة الجزئية عامل اضافي في احتمالية الحرب الشاملة.. بالمقابل يعتبر إمداد حلف الناتو اوكرانيا بالأسلحة النوعية “الهجومية” وفقآ لمعاييره من ملامح الرد الاستراتيجي تأكيد الانتقال ايضآ الى مرحلة جديدة “في جوهرها” أن التحالف الغربي “نحو ٤٠ دولة” ضالع جديآ في حرب بالوكالة مع روسيا..! كما يجمع القادة الاوروبيين على الخشية من تكرار سيناريو اوكرانيا لاحقآ عبر استهداف دول البلطيق وتلك التي كانت ضمن الاتحاد السوفياتي سابقآ.
اخيرآ، باتت الحلول الديبلوماسية والتسويات معلقة على مشجب الزمن، كما من المتعذر على القوى الغربية والولايات المتحدة الانكفاء عن المواجهة بعد الآن، فهي متورطة في حرب مفتوحة وان غير معلنة مع روسيا وربما الصين لاحقآ؛ ما يؤشر الى اهمية تتبع عقارب ساعة الساحة الحمراء في تفعيل الوضعيات الدفاعية الغربية والاطلسية.. ثبوت ان الرئيس الروسي ليس مِن النوع الذي يقفز الى الامام عشوائيآ، ويصعد الامور بشكل غير محسوب، على امتياز ان الساعة الصفر مُحدِدها والضربة الاولى ستكون له..!
بيروت في 28.09.2022