ليلى بركات كاتبة فرانكوفونية متمسكة بلغتها :يجلدني بالسوط لأنضبط في الكتابة
أجرى الزميل اسماعيل فقيه حواراً صاخباً مع الروائية الاديبة والاستاذة الجامعية الدكتورة ليلى بركات، تناول فيه مختلف الجوانب العامة والشخصية في حياتها الحافلة بالانجازات على أكثر من صعيد.
“الدنيا نيوز” تعيد نشر الحوار لأهميته وعمقه مع كاتبة تُرفع القبعات لانجازاتها المختلفة.
ليلى بركات فتاة متعّددة الأبعاد فهي تحمل شهادتي دكتوراه، الأولى في السياسة الثقافية الفرنكوفونية نالتها من جامعة السوربون الجديدة في باريس والثانية في إدارة القطاع العام نالتها من جامعة باريس، وعملت كمستشارة للعديد من الوزراء ورؤساء المؤسسات العامة في مختلف القطاعات لمدّة تسع سنوات وكأستاذة جامعية ومن ثم كخبيرة دولية في مشاريع مموّلة من قبل الاتحاد الاوروبي والوكالة الأميركية للتنمية الدولية. وأصدرت روايات باللغة الفرنسية وهي:
«تحت دوالي بلاد الدروز Sous les vignes du pays druze»،
«حزن اليمن السعيد Le chagrin de l’Arabie heureuse»،
«لماذا يبكي الفرات؟ Pourquoi pleure l’Euphrate?»
و«الرجال الملعونون في الأرضٍ المقدّسة Les homes damnés de la Terre sainte».
مشروع ليلى بركات الأدبي هو بالأصل أدب ملتزم يحاول خوض قضايا العالم الثالث من خلال مختلف الشعوب العربية ؛ ففي رواياتها تتحول ليلى بركات إلى رسول القضايا المحقة وترفع الهوية العربية. وقد كرّمها على ذلك مجلس الشيوخ الفرنسي عام 1994 ومجلس النواب الفرنسي عام 1995. وكما تقول بركات : « الكتابة ليست بريئة، فمن خلالها نأخذ مواقف سياسية، بل نحاكم مجتمعا. »
إلاّ أنها، ورغم أنوثتها، انصرفت إلى تأليف كتب فكرية وهو عالم ما يزال حكراً على الرجال في العالم العربي ومن هذه الكتب :
« التفكير في الدولة Penser l’Etat»،
« المغامرون في إدارة القطاع العام:
Les aventuriers de la gestion publique »،
« إدارة الحقيبة الوزارية : دليل الوزير:
Gestion rigoureuse du portefeuille ministériel : manuel du ministre »،
« حول الرؤساء وحول ممارسة المهام الرئاسية: موسوعة تحليلية:
Des présidents et de l’exercice des fonctions présidentielles : encyclopédie analytique ».
وتمثّل ليلى بركات النخبة التي لا تزال تؤمن بالعالم العربي، فبعد سنوات طويلة عاشتها في باريس، عادت إلى لبنان بدافع قناعتها ومبادئها. حول كتب ليلى بركات كان لنا معها هذا الحوار :
أنتِ كاتبة فرانكوفونية يتعاطى معها الاعلام العربي بطريقة مكثّفة وكأنها تكتب باللغة العربية، بينما معظم الكتّاب الفرانكوفونيين يكتبون وكأنهم يتوجّهون للغرب ويضيعون في هذه البلدان البعيدة. ما سبب ذلك ؟
– لربّما التمسّك بالهوية والمحافظة عليها. فبالنسبة لي، لم تكن يوماً اللغة أكثر من وسيلة. أنا لستُ غريبة عن العالم العربي. إني كاتبة فرانكوفونية، ولكنني عربية أولاً وأخيراً.
تعيشين كما تريدين في عالمك الأدبي، تواكبين حدسك ورغباتك وتكسرين الحواجز وتمضين سائرة. ما سرّ هذه الثقة بالنفس؟ حرمتِ نفسك من الزواج والامومة. ألا تخشين أن تستيقظي يوماً وتحاسبي نفسك على هذه الخيارات غير التقليدية ؟
– لا. لا أخاف من شيء في الحياة. إني دائماً أقول أن شعور الخوف يحمي ويحذّر ويردع. ولأنني أخاف، فأنا لا أردع نفسي عن شيء وفي الوقت ذاته فإنني غير محمية. فكما يقول الكاتب الفرنسي الشهير فرنسوا مورياك عن المرأة التي تأخذ خيارات تقليدية « تشعر في النهاية أنها أخذت الخيارات السهلة وأن الحياة كانت في غير مكانٍ -La vie est ailleurs et elle lui a échappé » وهذا ما لا أريده.
نظّمت عدة ندوات وحوارات حول كتبك ومناسبات تكريمية وفي أكثر من بلد. أيا تفضّلين منها ؟
– تكريمي في مجلس الشيوخ الفرنسي كان لحظة عظيمة Un grand moment وخاصةً إنني كنت ما زلت في الرابعة والعشرين من عمري، فكنت مبهورة جداًًّ.
وكيف كان الأمر من حيث التعاطي المباشر مع الجمهور؟
– 35 سيدة بعيداً عن الأضواء الإعلامية اشترين أحد كتبي «حزن اليمن السعيد» (وهو عادةً الرواية المفضّلة عند السيّدات) وقرأناه بتمعّن ووجّهن لي دعوة لجلسة أدبية في بيت إحداهنّ مع الشاي والجاتو. فلبيّت الدعوة وناقشن معي تفاصيل الرواية على مدى ساعات. كانت جلسة حميمة ولم أكن أعرف سوى واحدة من هذه الـ35 سيدة، فأعجبني هذا التعاطي الرصين من قبل جمهور صغير من المثقّفات.
هل من حادثة معيّنة تذكرينها من حيث التعاطي مع الجمهور ؟
– نعم، عندما وضعتُ روايتي الأولى، كنت ألتقي بأشخاص للمرّة الأولى، ويسألونني علناً : «لماذا قتلتيها ؟» وكانوا يقصدون بطلة الرواية التي ماتت في النهاية. إلاّ أن هذا النوع من رداّت الفعل جعلني أشعر أنني أدخل في عالم جديد، وأني أصبحت كاتبة فعلاً ويتعاطى الجمهور معي ومع شخصيات رواياتي على هذ الأساس، لا بل كنتُ سأظن نفسي قاتلة.
أما زلتِ تتعرّضين لهذا النوع من الحوادث وأنتِ تكتبين الآن في المجال الفكري ؟
– لا، أتعرّض لنوع مختلف من الحوادث. فعملي الأخير مثلاً «حول الرؤساء وحول ممارسة المهام الرئاسية: موسوعة تحليلية» جعلني أخسر شخصاً كنت على علاقة جيدة معه. وإذا به يتّصل بي هاتفياً يومًا وهو في حالة غضب شديد ليعاتبني على آرائي السياسية خلال ساعة كاملة. وبعدها، شيء ما انكسر بيننا (إذا صحّ التعبير ). أو ليس هذا مؤسفا: أن تخسر العلاقات البشرية من أجل بضعة أسطر؟ فكما قلتُ لك: «الكتابة ليست بريئة».
ألستِ مهيأة كرائدة تكتب في المجالين الأدبي والفكري لهذا النوع من التضحيات ؟
– بلى، ولكن عندما تكتب لا تعرف تماماً ما ينتظرك. يمكنك فقط أن تظل في إطار التوقّعات.
ماذا يعني لك الكتاب ؟
– الكتاب أعزّ صديق، يعطي ولا يأخذ. لا يؤذي مثل البشر. لا يمثّل. لا يخون. يبحر فيك عبر القارات، يأخذك عبر التاريخ، يثقّفك، يمدّك بالقدرة على الأحلام (وذلك في عالمٍ تُقتل كل يوم فيه الأحلام). إني أمضي ساعات طويلة جداً في القراءة. ومع كل ذلك يبقى الكتاب متواضعاً ويُشعر القارئ أنّه هو من يتحكّم به، يرميه عندما يشاء ويعود إليه كلّما يرغب. فكما يقول إساربيت Escarpit «الكتاب هو آلة تجيز لنا أن نقرأ، إنما القراءة هي التي تحدّده». وكان جان بول سارتر Jean-Paul Sartre قال إن الكتاب هو مجموعة من الأوراق اليابسة وحركة القراءة هي التي تبثّ فيه الحياة.
على الصعيد الشخصي، إني أقرأ مئات الكتب قبل أن أكتب بعض الأسطر، وأقرأ مئات المراّت مسودة كتبي قبل أن أتجرأ على نشرها. أحرص على المحافظة على قدسية الكتابة. ولا شيء يؤسفني بقدر الكتب التي لا قيمة لها. فالكتب التي لا قيمة لها تجتاج المكتبات وكأنها تحتل ّ مساحات لا حق لها فيها.
هل أخذ الكتاب مكان العائلة التي – حسب قولك – لا تريدينها ؟
– صحيح أنني لا أريد إنشاء عائلة، ولكن لا أعرف إذا الكتاب أخذ مكانها.
لماذا أنت مصرّة أن تبقي وحيدة ؟
– إني أعشق وحدتي وأتمسّك باستقلاليتي وأقدّس حريتي. وقد ذكرتني بالكاتب الكبير جونكور (والذي نُسبت إليه جائزة جونكور) الذي كان يعتبر أن الشخص الغني الشخصية (وحرفياً المليء جداً من نفسه trop rempli de lui-même) وهو بنفسه كان كذلك، لا يحتاج إلى الأولاد ليشعر أنه صنع شيئاً مهماً في الحياة.
بالاضافة إلى ذلك، أتمنى أن أموت وأنا شابة وجميلة ومتألّقة، ولا أريد مسؤوليات عندما أموت. أريد أن أكون متحرّرة من جميع القيود العائلية عندما أغادر الحياة. فكما يقول الجنرال شارل دي غول: «الشيخوخة هي عبارة عن جميع أنواع الانحدار». كنتُ مقتنعة سابقاً أن الشيخوخة هي عبارة عن اكتمال النضوج، إلى أن رأيتُ من حولي يشيخون ويهرمون ويتعّّذبون جسدياً وعقلياً ويفقدون قدراتهم العقلية والجسدية ويخسرون بالتالي احترام الناس، فالناس يحترمون النجاح.
ثمة أسئلة شخصية توجّه إليك حول أفكارك السياسية – ونحن معتادون على قراءة مقابلات لكِ تبدين فيها رأيك بالتفصيل بموضوع متعلّق بممارسة السلطة التنفيذية – ثم نتفاجأ بمقابلة تُسألين فيها عن علاقتك بوالدك أو عن حياتك الجنسية. فهل يزعجك ذلك؟
– سأجيبك بكل صراحة: هذه الأسئلة تجبرني أن أكسر الحواجز بيني وبين نفسي وأن أفكّر في نفسي وأن أسأل نفسي أسئلة لم أسألها من قبل.
« أشعر أن ضميري يجلدني بالسوط
كي أنضبط في الكتابة »
تأخذ المرأة حيّزاً هاماً في رواياتك. روايتُك الأولى هي عبارة عن صبية من الطائفة الدرزية تثور على التقاليد والعادات دون الانتقاص من قيم معيّنة في مجتمعها، روايتك الثانية هي عبارة عن إمرأة يمنية متعدّدة الشخصيات وكأنّها مسكونة في عدة نساء، روايتك الثالثة هي عبارة عن رجل يبحث في العراق عن امرأة غير موجودة ويتبيّن أنها ترمز إلى الأرض العراقية وروايتك الرابعة هي عبارة عن امرأتين فلسطينيتين تعشقان الرجل نفسه في نفس البيت ويتبين لهما أنه يهودي. في أي رواية المرأة هي الأقرب لشخصيتك ؟
– شخصيتي تطوّرت. فيمكنني القول إن شخصيتي انطلقت من الفتاة الدرزية المتمرّدة على التقاليد والعادات في روايتي الأولى: «تحت دوالي بلاد الدروز»، وأنها وصلت إلى المرأة المتعدّدة الشخصيات في روايتي الثانية «حزن اليمن السعيد»، حيث ما زالت تتخبّط هناك.
وأيّ من هاتين الروايتين تفضّلين ؟
– لا هذه ولا تلك. فليس بالضرورة أن يفضّل الكاتب ما يشبهه. أفضّل روايتي الرابعة، «الرجال الملعونون في الأرضٍ المقدّسة»، لأنها متقنة أكثر (وهي الرواية الأخيرة قبل أن أنتقل إلى نمط جديد من الكتابة يتناول السلطة التنفيذية). أفضّلها لأنها تؤكد على نضوج معيّن وتمرّس بالكتابة. وبالإضافة إلى الحقبة الروائية وتكامل بناء الشخصيات، هي تحتوي على فكر. والكاتب الجدير بهذا اللقب لا يكون مجرّد روائي، بل يكون أيضاً مفكّراً
هل الكتابة ممتعة بالنسبة لكِ ؟
– لحظات الإبداع هي وحدها الممتعة. أما الكتابة كعمل يؤدي إلى كتاب متكامل سواء كان ذلك رواية مع حقبة أو كتاب فكري مع تبويب علمي مفّصل هو عمل متعب بل شاق ويتطلب أبحاثا معمّقة وجهدا فكريا كبيرا وانضباطا تاما ورصانة… ودعني هنا أيضاً أتذكر قول لا برويار La Bruyère : «صياغة الكتب تتطلّب احترافاً كصناعة الساعات».
كي أحثّ نفسي على الانضباط، أتذكّر كل يوم صباحاً المقاتلين اليابان الملقّبين بالساموراي Les Samurais، وهم مقاتلون اشتهروا بالانضباط، إذ ينهضون منذ الفجر للتمرّن على فن القتال…
وعندما أرتخي وأفقد الانضباط، تعود إلى ذهني إحدى الكاريكاتورات الفرنسية، حيث يصوّرون رجلاً يجلد الكاتب بالسوط كي يكتب، ويقصدون حثّه على الانضباط، وهذا ما أشعر به أحياناً : ان ضميري يجلدني بالسوط كي أنضبط. وكلّ ما أطلبه عندها، هو ان يهدأ المقاتل الساموراي بداخلي ويكفّ ضميري عن التجليد… فيرتاح القلم.
هل تعتبرين أنك تحترفين الكتابة ؟
– بل أقدّسها. إنني أرفض امتهان الكتابة، بمعنى أن تصبح مورد رزقي، بل إنني كما يقول المفكّر ديكارت Descartes «أكره مهنة كتابة الكتب». لا أنتقد أبداً أيا من الكتّاب الذين يرتزقون من الكتابة، وبينهم أهم الكتّاب في العالم، ولكنني وعدتُ نفسي أن لا أجعل الكتابة مهنة، ولذلك نلتُ شهادتي الدكتوراه، كي يبقى عالم الأدب ملك الأدب، بينما المهنة موضوع مختلف.
« أخاف أن أستيقظ في عالمٍ عربي دون قراء »
هل عندك هواجس معيّنة متعلّقة بالكتابة ؟
– هواجس معيّنة متعلّقة بالكتابة ؟ لم يسبق لي أن فكّرت بالموضوع… ولكن بعد التفكير، أعترف أنني أخاف من شيئين :
– أخاف أن أستيقظ في عالمٍ عربي دون قراء. فالقراء يختفون تدريجياً من البلدان العربية. ينتقل العالم العربي من الـ oralité ونسب الامية المرتفعة إلى العولمة والانترنت والكمبيوتر.
سكاّن البلدان الغربية يقرأون ويحترمون الكاتب والكتابة. ولكن هل سنصل إلى وقت في البلدان العربية كالعمال الذين قضت عليهم التكنولوجيا وكالصحف التي تقضي عليها الانترنت وكالكتاب الذي يقضي عليه التلفزيون وكالكاوبويز والساموراي الذي لم يعد لهم وجود، أن يختفي جنس الكتاب ؟
– كما أخاف أيضاً من أن نكون نحن الكتّاب بحاجة إلى الكتابة أكثر من كون الأدب يحتاج إلينا. فالأدب العالمي غنيّ جداً…
هل نستطيع إذاً القول إنك تفضّلين القراّء الفرنسيين أو المجتمع القارئ الفرنسي (إذا استطعنا وصفه كذلك) على القراء العرب أو المجتمع القارئ العربي ؟
– كلاّ. فالقراّء الفرنسيون يتأثّرون تأثراً كبيراً بدور النشر. يقرأون ما تصدره دور النشر الكبيرة التي تحتلّ مساحات المكتبات بفضل نفوذ سياسات أقسام التسويق لديها ضمن إطار العولمة، ويتجاهلون بعض الكتب الممتازة التي تصدر عن دور النشر الصغيرة، وهذا السجال مفتوح دائماً في فرنسا. أماّ في العالم العربي، فالقراّء يتبعون القارئ والكتاب الجيّد، بغضّ النظر عن دار النشر. في فرنسا يقرأون Gallimard, Le Seuil, Grassset, Fayard ، بينما في العالم العربي يقرأون محمود درويش ونزار قباّني وعبد الرحمن منيف ومحمد حسنين هيكل وغيرهم غير مكترثين عن أي دار نشر تصدر كتب هؤلاء…
نلاحظ منهجية في كتاباتِكِ : روايات اجتماعية- سياسية أولاً وسلسلة إدارة القطاع العام ثانياً وكأن كتاباتك هي خياراتك. فهل نستطيع أن نتحدّث عن خيارات أدبية في الكتابة؟
– نعم، كل ما أفعله هو عبارة عن خيارات اتخذتها بنفسي. لا شيء صدفة في عالم الكتابة عندي. وبالمناسبة، هذه الخيارات الأدبية تكسر العولمة، بمعنى أنها غير مألوفة في عالم أصبحت معاييره مفصّلة سابقاً. فاني أتوقّف أحياناً عن عملي في السلطة التنفيذية، وغالباً ما يتزامن ذلك مع تغيّر الحكومات، للتفرّغ إلى الكتابة. ويهنّئني على ذلك أصدقائي الفرنسيون عندما ألتقي بهم ويقولون لي أنني محظوظة أن أملك موهبة الكتابة ويشجّعوني على اعتماد نمط حياة يسمح لي بالتفرّغ لهذه الموهبة، مؤكّدين لي أنه يجب عليّ أن لا أضيّع عمري ووقتي في وزارات العالم الثالث الفاسدة والعفنة. بينما على عكس ذلك تكون ردود الفعل في لبنان آسفة. فهل أصبح العالم العربي مبهورا بعالم السلطة ويحتقر عالم الأدب والكتاّب ؟
هل تعنين فعلاً ما تقولين ؟
– هذا ما أخشاه : أن نصل إلى عالم عربي يشعر فيه الكاتب نفسه غريباً. عندما أكون في السلطة التنفيذية، لا تكفّ إتصالات وزيارات «الاصدقاء والحبايب»، وذلك للسؤال عني وعن عائلتي، لتهنئتي بالأعياد، للإحتفال بعيد ميلادي، إلخ… عندما تتغيّر الحكومات، وأجد نفسي متفرّغة للكتابة، تكف هذه الاتصالات… وكأن الجميع نسي رقم هاتفي…
هل الكاتب العربي يعيش إذن بطريقة أفضل في فرنسا وفي البلدان الاوروبية الأخرى ؟
– ليس بالضرورة. يحظى على تقديرٍ أكبر ويعيش مرتاحاً أكثر من الناحية المادية. ولكنّه يعيش مهمشا : فالعالم الثالث هو ساحة جميع الصراعات ودور الكاتب أكبر وأهم في هذه الساحة.
بالإضافة إلى ذلك، إن معظم دور النشر في الغرب تتبع سياسات إعلامية محدّدة إذْ أنّها تريد أن تصنع صورة معيّنة عن المشرق العربي من خلال الكتب الفكرية والأدبية والفنية. إذن نجاح الكاتب العربي في الغرب مرتبط إلى حدّ معيّن بالصورة المتوقّع منه تقديمها حول العالم العربي، وهي صورة تتأرجح بين الاكزوتيكية والانتقاص من قيم وعادات وتقاليد الشعوب العربية، وكأنّها الثمن الذي يجب أن يدفعه الكاتب العربي في البلدان الغربية مقابل نجاحه. فالغرب اليوم، للأسف، يصنع مفكّري العالم العربي الفرانكوفونيين.
ليلى بركات، مع تراكم إنجازاتك، من الروايات إلى مهامك في السلطة التنفيذية ثم إلى خبرات المنظّمات الدولية ثم مجدّداً إلى الكتب الفكرية، هل تعتبرين أنك حقّقتِ ذاتك ؟
– ما زلتُ أحقّق ذاتي. فأنا أعتبر نفسي مشروعا قيد التنفيذ والتطوير Je suis un projet en gestation
ورد لكِ في الجزء الرابع من عملِكِ الأخير «حول الرؤساء وحول ممارسة المهام الرئاسية : مرجع رؤساء المستقبل» الجملة التالية : «يتوجّب على رئيس الجمهورية المقبل أن يحترم سيادة لبنان وإستقلالية قراراته، وذلك إن أراد أن يجد السلام الداخلي والرضى عن الذات عندما ينظر إلى نفسه في المرآة – فمواجهة المرآة هي مهمّة عصيبة. » فهل أنتِ تواجهين المرآة ؟
– دائماً.
وهل تجدين ذلك مهمّة عصيبة ؟
– جداً. أنا فخورة بما أنجزته في القطاع العام (كنت أعمل عشرين ساعة يومياً مع بعض الوزراء تفانياً للمصلحة العامة) وأنا مثالية جداً. ولكن مع ذلك أجد أن مواجهة المرآة هي مهمّة عصيبة، لأنني دائماً أطلب من نفسي أكثر مماّ أنجزت. فلا أكون راضية عن الصورة التي أراها في المرآة.
الإعلام والمرشحّون للرئاسة تعاطوا بإيجابية مع عملك الأخير المتعلّق بالرؤساء، سواء كان إعلاما مواليا للسلطة أو إعلاما معارضا، وكذلك معظم المرشحين للرئاسة الذين تلقوا نسخة عن الموسوعة. فكيف تشرحين ذلك؟ ولماذا هذه الايجابية من وسط سياسي اعتاد على السلبيات؟
– إني مقتنعة أن العمل الرصين والعلمي، أي الجدّية والموضوعية يفرضان الاحترام.
كتبتِ في كتاب «حول الدولة» « لن يخرج لبنان من ليله الطويل الدامس، ما لم تتلازم عبقرية قادته السياسيين مع النضوج السياسي للمواطنين. » متى برأيك سنصل إلى هذا المستوى من حكم النخب السياسية ونضج المواطنين ؟
– لا أدري، فطريق النضال طويلة وعسيرة. وكي نصل إلى هذه الحقبة المثالية، علينا أن نعمل جميعاً بروح مسؤولية، الكل في مجاله، وأن نكون إيجابيين وصبورين. فما أدعو إليه، في النهاية، هو الغوص في عمق مفهوم الدولة وقيم الجمهورية وتطبيق الديمقراطية، والدعوة إلى تجديدها.
تحدّثت عن النضال، فهل تعتبرين عملك في السلطة التنفيذية نضالاً ؟ وهل نستطيع اعتبار سلسلة Gubernare المتعلّقة بإدارة القطاع العام والتي أنشأتيها نضالاً ؟
– تماماً. فالنضال ليس بالضرورة أن يكون كفاحاً مسلّحاً بل يمكن أن يكون عملا فكريا في إطار علمي.
كتبتِ في كتاب «إدارة الحقيبة الوزارية : دليل الوزير» «عدّة مستوزرين يحلمون أن يتسلّموا حقائب وزارية. على هؤلاء الأشخاص أن لا ينسوا، إن اصبحوا فعلاً وزراء، أن المواطنين أيضاً لديهم أحلام، ومنها أن يكونوا محكومين من قبل وزراء جديرين بهذا المنصب.» هل تعتبرين فعلاً أن لبنان سيصل يوماً ما إلى هذا المستوى من الحكومات الراقية ؟
– آمل ذلك وأعمل لذلك وآخرون كثر يعملون أيضاً لذلك. طبعاً لن يصل لبنان إلى هذا المستوى من الحكومات الراقية إذا بقيت السلطة السياسية في لبنان تعيد انتخاب ذاتها بواسطة ناخبين طيّعيين. إذا الشعب اللبناني أراد أن يتقدّم، فعليه أن يمارس حقّه الانتخابي بوعي تام لتأمين وصول مرشّحين أكفاء يشكلّون انقطاعاً مع هذه الطبقة السياسية ويكونون قادرين على محاسبة السلطة التنفيذية على أدائها.
إن عالم الإدارة عالم قاسٍ وجافٍ بالنسبة للمرأة. ما الذي يجعل أمرأة جميلة وتتمتّع بالانوثة مثلك تميل إلى الكتابة في هذه المواضيع السياسية والإدارية ؟
– شخصياً، لا أجدها جافة ولا قاسية، بل ممتعة. أرى في الاصلاح الإداري خشبة الإنقاذ للبنان. أنا دماغ متحرّك، أنا فكر ديناميكي قبل أن أكون إمرأة. في إحدى الوزارات حيث كنت أعمل مستشارة لأحد الوزرء، كان الشباّن والشابات ينصرفون يوم الجمعة مساءً ليلتقوا ويتواعدوا في السهرة، ويعرضون عليّ مرافقتهم فيجيب عني الوزير بروح مرحة : « أتركوها، ألا تعرفوا أن ليلى ستقضي ليلتها مع تقارير الوزارة ؟ »، وفعلاً هذا ما كان يحدث.
وكيف تفسريّن ذلك ؟
– لا أجد حتى أن عليّ أن أفسّر أو أبرّر. لقد سئمتُ من الأسئلة والمقالات التي تسألني لماذا لا مكانة للرجل في حياتي ولماذا أنا مأخوذة في حياتي العملية وفي كتاباتي الفكرية والتي تحاول تحليل ذلك بشتّى الطرق. قد أكون مختلفة عن الآخرين، والأرجح إني كذلك. ولكنني أدافع عن حقيّ بالاختلاف. Je cultive mon droit à la différence.
ولكن رغم تعبكِ وجهدكِ، فإن الوضع السياسي في لبنان وممارسة السلطة التنفيذية لا يتغيّران، ألم تيأسي ؟
– لم أيأس بعد. أضع دائماً أمام عيني الرئيس الأميركي توماس جيفرسون الذي أكن له الاحترام الفائق، فهو، بعد أن انتهت مهماّته الرئاسية، تقاعد وأصبح يكتب رسائل لبعض رجال السياسة والاقتصاد لتقديم التوجيهات والنصائح، وذلك دون توقّف، سواء حصل على أجوبة من قبلهم أو لم يحصل.
هل تجدين نفسك أكثر في عالمك الفكري أو عالمك الأدبي؟
– الواقع أنني عشتُ حتى الآن على هامش العالمين.
وهل من السهل التنقّل بين هذين العالمين ؟
– لا، أبداً. إنّه يولّد شعوراً غريباً. تماماً كالتنقّل بين شخصيتين.
ما أهم فارق بين هذين العالمين بالنسبة لكِ ؟
– هما عالمان مختلفان تماماً، وبالتالي فأنا أعيش نمطين مختلفين من الحياة فيهما. وأهم فارق بين هذين العالمين بالنسبة لي أنني في عالم السلطة التنفيذية أعيش في عالم خارجي وما يؤثّر على مزاجي وتفكيري هو البيانات الوزارية وأداء الوزراء والموظّفين ومواكبة التعاميم الإدارية والاجتماعات التي تنعقد وتكون مكتظّة بالناس. أماّ في عالم الأدب فأعيش في عالم داخلي وما يؤثّر على مزاجي وتفكيري هو أحاسيسي وتأثير الكتب التي أقرأها علي وتفاعلي مع وحدتي ومع ما أسميه هذا الجو الداخلي… كعددٍ من الكتّاب، إني أبكي أحياناً عندما أكتب. أؤلّف قصّة وأجد نفسي معذّبة من تطوّراتها (فيصبح مولودي الأدبي مصدر عذابي)، ولكنني لم أحزن ولم أبكِ يوماً خلال عملي في السلطة التنفيذية.
كيف تصفين عالمك الفكري ؟
– إنه رصين وجدي ومنظّم.
كيف تصفين عالمك الأدبي ؟
– إنه قاسٍ، غير مستقرّ ومليء بالضجيج والأفكار المشوّشة. وهو غير مجرّد من الطموح : طموح تحقيق الذات من خلال القلم. ينقصه الهدوء. ومتى أهدأ ؟ لا أدري.
من يمنعك أن تهدئي ؟
– (تجيب وقد امتلأت عيناها بالدموع) :
هي لن تدعني أهدأ ولا أرتاح. تأخذ شكل الضمير الأنثوي. فهي إمرأة مثلي. إمرأة قاسية، شعرها أسود وطويل مثل شعري، ولكن ملامح وجهها غير واضحة. إمرأة تجبرني على العمل في النهار وتحجب عني السكينة في الليل. أحياناً أريد أن أخرج مع أصدقائي، أو أن أتابع فيلماً على شاشة التلفزيون، أو أن أقوم بنزهة قرب البحر، أو أن أرفّه عن نفسي بأية طريقة. ولكنّها لا تسمح لي بذلك.
من هي ؟
– ليلى بركات.
مختارات من كتاب
«المغامرون في إدارة القطاع العام » لليلى بركات
(نقلاً من اللغة الفرنسية )
انتقدت ليلى بركات، الأديبة العلمية، بشكلٍ رصين وعميق وعلمي إعادة بناء القطاع العام من قبل الحكومات المتعاقبة في لبنان بعد إتفاق الطائف. ولم يخل انتقادها من المسحة الأدبية :
مهما يَكُنْ من أَمْر، لِنَفْتَرِض، فَقَطْ لِنَفْتَرِضْ أَنَّ نُخَباً من الشَعْبِ أَقْدَمَت على المُطالَبَةِ بِإِجراءِ الإِصْلاح، ولنَفْتَرِضْ أَنَّ قِيادِيّينَ رَغِبوا فيه، في أَحد الأَيّام، وكانوا قادِرينَ على القِيامِ به، وساءَلوا أَنْفًُسَهم من أين يَبْدَأُون، فَسَيَقِفون حَيارى.
اسْتراتيجِيات، وخُطَطٌ ودِراسات، لَدَيْنا الآلافُ منها. لقد تَوَصَّل لبنانُ لأَنْ يُصْبِحَ حالةً اسْتِثْنائِيَّة: هناك وَفْرةٌ وافِرَةٌ من الحُلولِ في مُتَناوَلِ أَيْدينا، ولَكِنْ ما حُقِّقَ منها غيرُ كافٍ ولم يَلْقَ أَيَّةَ مُتابَعَة. إِنْ كانَت، على وَجْهِ العُموم، دُوَلُ العالَمِ الثالثِ تَفْتَقِرُ الى الرُؤْيَة، فلبنانُ خلافاً لذلك، لَدَيْهِ رُؤًى لا تُحْصى ولا تُعَدّ. أَمّا ما يَنْقَصُهُ فهو ما يَرْبُطُ هذه الرُؤَى بالوَاقِع.
هذا الرابِط يَقْتَضي الِتِزاماً من قِبَلِ أَقْطابِ الدَوْلَة. إِنَّ الرِهانَ على الإِصْلاحِ في لبنان لا يُمْكِنُ اخْتِزالُهُ بالشَقِّ التِقَنِيِّ الصِرْف. ذلك أَنَّ «لا حُلولَ في الحياة: هناك قِوى جارِيَةٌ يَقْتَضي تَوْجيهُها والحُلولُ تَتَبَع».
لقد سَئِمْنا مِنَ النُدْواتِ حَوْلَ إِصْلاحِ الإِدارَةِ العامَّة، التي تَعاقَبَت على إِيقاعِ فَشَلِنا. إِنْ طالَعْنا ما كُتِبَ حَوْلَ الإِصْلاحِ الإِدارِيِّ في لبنان، فَنَجِدْ أَنَّ كُلَّ شَيْءٍ قد قيلَ وكُرِّرَ مَرّاتٍ ومَرّات، والفُروقُ ما بَيْنَ المُقْتَرَحاتِ طَفيفَةٌ لا تُذْكَر. أَمّا القاسِمُ المُشْتَرَكُ بَيْنَها، على نَقيضِ ذلك، فهو أَنَّها لم تُطَبَّقْ او إِنْ طُبِّقَت فَجُزْئِيّاً وحَسْب.
هذا الذي كُتِبَ يُشكِّلُ أَكْثَرِيَّةً واسِعَةً جِدّاً من الأَوْلَوِيّاتِ المُتَعَلِّقَةِ بإِصْلاحِ الإِدارَةِ العامَّة. خِتاماً، لَنْ نَسْتَعيدَ هذه الأَوْلَوِيّات، فذلك يُشابِهُ اللاعبينَ الذين يَخْلُطونَ الأَوراقَ لِيُعاوِدوا تَوْزيعَها حتى اللانِهايَة. لقد أَفْرَطْنا في التَفْكيرِ بالإِصْلاحِ الإِدارِيّ. لَكِنْ هَلْ هُناكَ مَنْ يَرْغَبُ في تَحْقيقِ ثَمَرَةِ هذا التَفْكير؟ »