“شاعر الإنسانية المفقودة” محمد الفيتوري
“الدنيا نيوز” – دانيا يوسف*
حاز الشاعر الراحل محمد مفتاح الفيتوري مكانة متميزة في الأدب والشعر العربي، إذ يعد من أوائل مجددي المفردة والصورة والشكل في الشعر، فقد برز صوتًا شعريًّا متفردًا ومختلفًا منذ خمسينيات القرن الماضي وحتى رحيله، وشكلت الهويات التي ينتمي إليها أصواتًا متباينة داخل قصيدته، فهو ممجد لإفريقيا، ومغن بصوت العروبة وأحلامها وانكساراتها، وكان منفتحًا على الثقافات الإنسانية، ومناديًّا بالتمرد.
منذ بدايته الشعرية أظهر محمد الفيتوري انتماءه الثقافي والعرقي والمصيري لإفريقيا السوداء كما تعبر قصيدة من ديوانه الأول “أغاني إفريقيا” بوضوح.
بدأ الفيتوري رحلته مع الشعر في مطلع خمسينيات القرن الماضي حين ظهرت حركات النهوض التحرري في الوطن العربي وأمريكا اللاتينية، وانطلقت مجموعة من رواد “الشعر الحديث” بدر شاكر السياب – نازك الملائكة- عبدالوهاب البياتي- صلاح عبدالصبور – أدونيس – نزار قباني – خليل حاوي، تعبر عن أحلام ونضال الوطن العربي، فظهر بينهم صوت منفرد ليضيف بعدًا آخر للمشهد الشعري العربي، حيث راح الشاعر السوداني يستنهض – بحرارة – إفريقيا ويجسد همومها وقضاياها، ويصور في أشعاره محنة الإنسان الإفريقي وصراعه ضد العبودية والاستعمار وتوقه إلى التحرر، ويصبح هو “صوت إفريقيا” وشاعرها.
ولا غرو أن بشرته السوداء كانت الدافع لبلورة الهوية الإفريقية كردة فعل على بعض المواقف العنصرية تجاهه خاصة في مدينة الإسكندرية، المدينة الساحلية التي كان يعيش فيها زنوج يعملون خدمًا فقط.
شُغل الشاعر بإفريقيا في دوواينه الأولى، لكن شجون الوطن العربي لم تغب عن قصائده، ليشكل الفيتوري مع عدد من المجايلين له في السوادن (محيي الدين فارس وتاج السر الحسن وجيلي عبدالرحمن) حالة فريدة من الانتماء للونين مختلفين وتاريخين يصعب المزج بينهما، النزعة الزنجية والولاء العربي.
تلك مأساة قرون غبـرت
لم أعد أقبلها لم أعــــد
كيف يستعبد أرضي أبيض
كيف يستعبد أمسي وغـدي
كيف يخبو عمري في سجنه
وجبال السجن من صنع يدي
أنا فلاح ولي الأرض التـي
شربت تربتها من جســدي
وأصبح الفيتوري صاحب حضور قوي في الساحة الأدبية العربية والإفريقية بقصائده التي تتغنى بالإنسانية والحرية والكرامة والعدالة والحب أيضًا،
ولد محمد الفيتوري في 24 تشرين الثاني/نوفمبر عام 1936م في مدينة الجنينة بولاية غرب دارفور الحالية بالسودان. كانت جدته زنجية، ووالده من ليبيا. أما أمه فتعود أصولها إلى تاجر إفريقي كان يتاجر في الرقيق والعاج. وقد أثرت فيه هذه الجدة الزنجية تأثيرًا كبيرًا، إذ كانت تروي له القصص والأساطير الإفريقية. وانتقلت عائلته إلى الإسكندرية، التي نشأ وحفظ القرآن فيها، ثم انتقل إلى القاهرة حيث تخرج من كلية العلوم بجامعة الأزهر.
منذ طفولته كان هاجس القلق يرافقه. يومًا ما قال له والده: “ستقضي حياتك غريبًا عن وطنك”، وهو ما عايشه الفيتوري حتى وفاته. شغله الهم الإفريقي خاصة في الستينيات من القرن الماضي، في نهاية الحقبة الاستعمارية لإفريقيا.
كان الفيتوري أول شاعر عربي يعالج في شعره قضية الصراع بين الأبيض والأسود، متصديًا للفوارق العنصرية والاجتماعية في المجتمعات العربية. ففي دواوينه الثلاثة الأولى “أغاني إفريقيا” 1956 و”عاشق من إفريقيا” 1964، “اذكريني يا إفريقيا”، 1965، ومسرحيته الشعرية و”أحزان إفريقيا” 1966 التي أثارت اهتمامًا واسعًا في الوسط الأدبي والثقافي العربي، خاصة مواضيعها الجديدة، كانت القارة السوداء حاضرة بشكل كبير.
عندما بدأ الفيتوري النشر كان الهم القومي العربي هو السائد في الأدب العربي والمهيمن على الوعي الجماعي. لكن قصائده كانت خارجة عن المألوف كونه أراد فضح “واقعنا اللاإنساني الأسود”. وبالطبع وجه له النقد من قبل القوى اليسارية والقومية، لأنه، وفق رأيهم، أهمل الصراع الطبقي الذي يجمع السود والبيض، لأن العنصرية في العالم العربي كانت وما زالت من التابوهات، من الموضوعات المحرمة، التي لا أحد يريد تسميتها باسمها وإثارة نقاش عام حولها. الفيتوري لفت النظر إلى هذه المسألة المهمة، لذلك كانت هذه القصائد جديدة على الأدب العربي.
انقطع الفيتوري عن الشعر في المدة بين 1955 إلى 1964، حيث عمل في الصحافة في السودان ومصر ولبنان. وعاش حياة صاخبة لم تعرف الهدوء، إذ كان في صراع دائم مع الحياة السياسية، حيث اهتم في شعره بالقضايا الوطنية العربية، فكتب قصائد سياسية عن السودان وفلسطين ولبنان وليبيا.
وكما كان متوقعًا جلبت له هذه القصائد المصاعب، فسحب منه الرئيس النميري جنسيته السودانية عام 1974 بسبب معارضته لنظامه، ثم منحه القذافي الجنسية الليبيية وجواز سفر دبلوماسيًّا وبسقوط نظام القذافي سحبت منه السلطات الليبية الجديدة جواز السفر الليبي فأقام بالمغرب. لكن الحكومة السودانية أعادت له جنسيته ومنحته جواز سفر دبلوماسيًّا عام 2014.
عمل الفيتوري في الصحافة محررًا صحافيًّا لمجلة “آخر ساعة”، وترأس مجلات منها: “مجلة الإذاعة والتلفزيون”، ومجلة “الأسبوع الأدبية”، وشارك في إصدار مجلة “الديار”، وأسس دارًا للنشر في بيروت عام 1981.
تقلد الفيتوري مناصب ديبلوماسية وسياسية متعددة، فعمل مستشارًا إعلاميًّا بجامعة الدول العربية في ستينيات القرن الماضي، ثم مستشارًا ثقافيًّا في سفارة ليبيا بإيطاليا، وسفيرًا بالسفارة الليبية في بيروت بلبنان، ومستشارًا للشؤون السياسية والإعلامية بسفارة ليبيا في المغرب.
ولا شك أن مهنته بصفته دبلوماسيًّا سهلت له السفر الدائم، ومكنته من العيش في العديد من المدن العربية مثل الإسكندرية والقاهرة والخرطوم ودمشق وبنغازي وطرابلس والرباط. لكن بيروت هي المحطة الأساسية في حياته، فقد عشقها وكتب فيها أروع قصائده، وربطته صداقة مع العديد من الشعراء هناك، وخاصة مع الرحابنة وفيروز.
أنت في لبنان…
والشعر له في ربى لبنان عرش ومقام
شاده الأخطل قصرًا عاليًا
يزلق الضوء عليه والغمام
وتبيت الشمس في ذروته
كلما داعب عينيها المنام
أنت في لبنان …
والخلد هنا
والرجال العبقريون أقاموا
حملوا الكون على أكتافهم
ورعوا غربته وهو غلام
وللمفارقة لم يحول ذلك من اختطافه في أثناء الحرب الأهلية من قبل الميليشيات في بيروت.
يقول الفيتوري: “عندما أكون في مصر أصبح مصريًّا وفي ليبيا أكون ليبيًّا، وهكذا… لذلك لم تكن قصيدتي «منفى»، فأنا دائمًا أشعر بالانتماء إلى كل أرض عربية أعيش عليها”.
وتشابهت تجربة الفيتوري إلى حد بعيد مع تجربة الروائي السوداني الطيب صالح، واحتل في قلوب السودانيين المكانة نفسها، وقد قُدّر لكل منها أن يعبّر عن بلاده، ويصبح صوتها، برغم الابتعاد الجغرافي عنها، ومع ذلك فقد تسنى لهما اللقاء في ثمانينيات القرن الماضي في مدينة أصيلة، وكان يُروى بين الأدباء أن السودان تعرف بأنها بلد الطيب صالح، والفيتوري.
تنقله الدائم بين البلدان العربية ولّدت لديه إحساسًا بالغربة، التي شكَّلت أبرز ملامح شخصيته ومنحته لونًا مميزًا في أدبه وشعره. كما كان له حضور قوي في الحركة الشعرية العربية الحديثة، الذي يعد أحد روادها المجددين في بنية الإيقاع الشعري. فالشعر بالنسبة للفيتوري شعر، والروح الشعرية برأيه هي التي تحدد قيمة القصيدة.
وفي استجواب جرى مع المجلة العراقية «ألف باء» صرح الفيتوري بأنه، ومنذ سنوات، يقيم بروما حيث ترجمت بعض مختاراته الشعرية إلى الإيطالية على يد المستشرق الإيطالي “جبريالي”.
يُعد الفيتوري الشاعر السوداني الوحيد الذي اشتهر في كل العالم العربي. لغته العربية تميزت بمتانتها وعمقها وهذا ساعد في أن يكون شعره غنائيًّا.
لقب الفيتوري بشاعر إفريقيا والعروبة، وطالما ارتبط شعره بالكفاح ضد الاستعمار في الدول العربية وخصوصًا الإفريقية منها، وخصص لهذا الجانب عدة مجموعات شعرية، وهو الشاعر العربي الوحيد الذي كان له هذا الارتباط القوي والراسخ بهموم القارة السمراء.
الفجر يدك جدار الظلمة
فاسمع ألحان النصر
ها هي ذي الظلمة تداعى
تساقط.. تهوي في ذعر
ها هو ذا شعبي ينهض من إغماءته
عاري الصدر
كتب عنه الناقد الماركسي المصري محمود أمين العالم : “لقد أخذ الشاعر يلونها (إفريقيا) بلون مشاعره، ويوحد تاريخه بتاريخها، ويخلع عليها مأساته الخاصة، ويبصر من خلالها خلاصه المنشود… ويتخلص من أزماته الباطنية ويخلع عليها صراعه النفسي المرير”.
تُعد قصيدته، “أصبح الصبح” واحدة من أجمل قصائده، وقد أدرجت في مناهج دراسية لبعض الدول العربية، حيث يقول:
أصبح الصبح
ولا السجن ولا السجان باقي
وإذا الفجر جناحان يرفان عليك
وإذا الحزن الذي كحل تلك المآقي
والذي شد وثاقًا لوثاق
والذي بعثرنا في كل وادي
فرحة نابعة من كل قلب يا بلادي
أصبح الصبح
وها نحن مع النو التقينا
التقى جيل البطولات
بجيل التضحيات
التقى كل شهيد
قهر الظلم ومات
بشهيد لم يزل يبذر في الأرض
بذور الذكريات
أبدًا ما هنت يا سوداننا يومًا علينا
بالذي أصبح شمسًا في يدينا
وغناءً عاطرًا تعدو به الريح
فتختال الهوينى
من كل قلب يا بلادي
فرحة نابعة من كل قلب يا بلادي
ويُعد الفيتورى جزءًا من الحركة الأدبية العربية المعاصرة، ومن رواد الشعر الحر الحديث، ففي قصيدة «تحت الأمطار» نجده يتحرر من الأغراض القديمة للشعر كالوصف والغزل، ويهجر الأوزان والقافية، ليعبر عن وجدان وتجربة ذاتية يشعر بها، وغالبًا ما يركّز شعره على الجوانب التأملية، ليعكس رؤيته الخاصة المجردة تجاه الأشياء من حوله مستخدمًا أدوات البلاغة والفصاحة التقليدية والإبداعية.
تـــنــوّعت التـجـــربة الشـعــريـة للفيتوري تنوّعًا لافتًا للنظر، لا على المستوى الكمّي فحسب؛ إذ هو شاعر مخضرم عاصر أجيالاً شعرية متنوعة ما بين قصيدة التفعيلة والشعر الحر وقصيدة النثر، بل على المستوى النّوعي أيضًا، حيث استطاعت قصيدته أن تبدع لنفسها مسارًا خاصًا، جمعت فيه بين طاقة التفعيلة وبراءة الشعر الحر وتمرّد القصيدة النثرية. وهذا أمر واضح للعيان في تنوّع دواوينه التي بدأت من: “أغاني إفريقيا (1955)، “عاشق من إفريقيا (1964)”، “اذكريني يا إفريقيا (1965)”، “أحزان إفريقيا (1966)”، “البطل والثورة والمشنقة (1968)”، “سقوط دبشليم (1969)”، “سولارا (مسرحية شعرية) (1970)”، “معزوفة درويش متجول (1971)”، “ثورة عمر المختار (1973)”، “أقوال شاهد إثبات”، “ابتسمي حتى تمر الخيل (1975)”، “عصفورة الدم (1983)”، “شرق الشمس… غرب القمر (1985)”، “يأتي العاشقون إليك (1989)”، “قوس الليل… قوس النهار (1994)، “أغصان الليل عليك”، “يوسف بن تاشفين (مسرحية) (1997)”، “الشاعر واللعبة (مسرحية) (1997)”، “نار في رماد الأشياء”، “عريان يرقص في الشمس” (2005).
لم يكتب الفيتوري الذي أصدر أكثر من عشرين ديوانًا شعريًّا قصائد سياسية فقط، بل كتب أشعارًا صوفية وعاطفية ورومامنيكية. ففي قصيدة «معزوفة درويش متجول» يقول الفيتوري:
“في حضرة من أهوى عبثت بي الأشواق
حدقت بلا وجه ورقصت بلا ساق
وزحمت براياتي وطبولي الآفاق
عشقي يفني عشقي وفنائي استغراق
مملوكك لكني سلطان العشاق”
تقرب الفيتوري من بعض الحكام العرب خاصة من القذافي وصدام حسين ومن قبل السادات، ومنح بعض الأوسمة. ولكنه من بعد كتب:
“إن صوتي مشنقة للطغاة جميعًا ولا نادمًا
إن روحي مثقلة بالغضب
كل طاغية هو صنم
دمية من خشب. ”
وبين أوقات التألق والأوقات التي غاب فيها عن المشهد بسبب الإحباطات، التي عانى منها أيضًا أدباء وشعراء جيله في التسعينيات خاصة، ظل الفيتوري يكتب شعره عن هموم الوطن العربي حتى آخر دواوينه «عريانًا يرقص تحت الشمس» الصادر في بيروت العام 2005، الذي توقف بعده عن التدفق شعرًا، وتمكّن منه المرض، وانزوى في منزله في مدينة تمارة المغربية قرب الرباط حتى وافته المنية ليرقد وكتب في إحدى قصائده كرثاء لنفسه:
“سأرقد في كل شبر من الأرض
أرقد كالماء في جسد النيل
أرقد كالشمس فوق
حقول بلادي
مثلي أنا ليس يسكن قبرًا…”
توفي محمد الفيتوري في يوم الجمعة 24 نيسان/أبريل 2015م، في المغرب التي كان يعيش فيها مع زوجته المغربية عن عمر ناهز 85 عامًا بعد صراع طويل ومرير مع المرض.
حصل الفيتورى على جوائز متعددة منها: “وسام الفاتح الليبي” و”الوسام الذهبي للعلوم والفنون والآداب” بالسودان.
——————-
*رئيسة القسم الثقافي في جريدة “الدنيا نيوز”.