أهل السياسة وأهل العقل ..
بقلم : توفيق شومان*
لم يعد السؤال محبوبا ولا مرغوبا ، حين يتم توجيهه إلى أكثر أهل السياسة العرب : ما آخر كتاب قرأت ؟
هذا السؤال أصبح منبوذا ومكروها ، بل إنه أصبح مدعاة لبغض وخصومة ، إذا تجرأ أحدهم وطرحه على ” أحدهم ” من أغلب السياسيين في الوطن الكبير.
أهكذا تُبنى الأوطان ؟ وهكذا تُشاد الدول؟
لا بأس من بعض أمثلة التاريخ والحاضر ، لعل الذكرى تنفع وتفيد :
يسمع أهل السياسة بالإسكندر المقدوني ، ويذكرونه بطلا وفاتحا وغازيا ، ويختصرونه بقرنيه وسيفه وفتوحاته.
الإسكندر ذاك ، حتى استبطل وغزا ، وحتى بنى إحدى أهم الإمبراطوريات والدول في العالم القديم ، كان يتكىء على عقل أعظم فلاسفة البشرية .
من هو هذا العقل ؟ : هو الفيلسوف أرسطوالمعروف بالمعلم الأول.
من اليونان إلى الصين .
كانت الصين قد تشظت وتدمرت وهلكت ، منذ القرن الثامن قبل الميلاد ، وإذ في لحظة ما ، يظهر كونفوشيوس وغيره من فلاسفة الصين القديمة.
كونفوشيوس كان وزيرا للعدل … ما الذي فعله كونفوشيوس ؟
إليه يعود مبدأ تكريس الإمتحانات في وظائف الدولة ، ومن خلال هذا المبدأ ، عرفت الصين التاريخية ما يُعرف ب ” طبقة الموظفين ـ المثقفين ” ، الذين بنوا حضارة الصين العظيمة ، وبصورة ما عادت تُذكر فيها الصين ، إلا ومعها كونفوشيوس وأمثاله من فلاسفة الصين التاريخيين .
لنقارن هنا بين جيوش طبقة الموظفين والمستوظفين في الأقطار العربية ، الذين لا عمل لهم ولا فعل ولا شغل ، وبين طبقة الموظفين ـ المثقفين التي أنشأها كونفوشيوس في الدولة الصينية القديمة ، ورفع من خلالها الصين إلى طبقة الحضارات العالمية الأولى .
نتابع : من الصين إلى جارتها الهند وإلى الفيلسوف كوتيليا.
كوتيليا الفيلسوف ، سطع اسمه بعد غزوة الإسكندر المقدوني لبلاد الهند ، في الربع الأخير من القرن الرابع قبل الميلاد ، وكانت بلاد الهند آنذاك محطمة وممزقة ، إلا أن الملك شاندرا غويتا ، رأى أن يعين كوتيليا الفيلسوف وزيرا ، فعمل الأخير على وضع كتاب ” أرتاشاسترا ” ـ علم السياسة / علم الحُكم ” ، مما أفضى إلى تأسيس أعظم الإمبراطوريات الهندية ، وعلى هدى الفيلسوف كوتيليا ، سار إبن شاندرا غويتا ، ناندا سارا ، ومن بعده الحفيد أشوكا ، المعروف أيضا بالملك الفيلسوف .
كانت الهند محطمة بفعل حروب الخارج على الداخل ، وبفعل حروب الداخل على الداخل ، لكن ملكا أدرك الخلاص عبر الفيلسوف .
من بلاد الهند إلى بلاد العرب وعصورها الذهبية .
لكن قبل ” حديث العرب ” ، لا بأس من الوقوف عند أبرز عوامل انكسار الإمبراطورية البيزنطية أمام العرب .
في عام 529 ميلادية ، يُصدر الإمبراطور البيزنطي جستنيان قانونا بتحريم الفلسفة وملاحقة الفلاسفة ، فهرب هؤلاء إلى مدن جنديسابور والرها ونصيبين ، وخلال جيلين ، فرغت بيزنطيا من الفلاسفة والمفكرين ، فتضعضعت أركانها ، فكان ذلك سهلا على العرب إتيانها بعد حين .
لنتمعن قليلا بالعبرة : انكسرت بيزنطيا بعدما كسر قرار امبراطوري فلاسفتها ومفكريها
إلى العرب من جديد :
تتراقص قلوب العرب فرحا ، حين يستحضرون ماضيهم المجيد ، كشاهد على نبوغهم ، والمرحلة العباسية ، هي الأكثر ذهبية في ماضي العرب ، وعلى رأس تلك المرحلة الخليفتان العباسيان المأمون والمعتصم .
كان إلى جانب المأمون والمعتصم الفيلسوف يعقوب الكندي ، وعلى ما قالت كتب التراث وأكده دارسو الفلسفة والمشتغلون بها ، أن الكندي كان عظيم المنزلة عند المأمون والمعتصم ، وكانا يطلبان منه أجوبة وشروحات على ما يحتاجونه من معارف ، ومما كتب الكندي إلى المأمون ” رسالة في العلة والمعلول ” ، وإلى المعتصم رسالة بعنوان ” كتاب الكندي إلى المعتصم بالله في الفلسفة الأولى ” ، وتحت عنوان ” في العقل ” وجه الكندي رسالة أخرى إلى المعتصم .
كم من أهل السياسة العرب يقرأ ” في العلة والمعلول ” وفي” الفلسفة الأولى ” ، أو الثانية أو الثالثة … أو حتى الأخيرة ؟
في الدولة الحمدانية ، أكثر من يؤتى على ذكرهم ، الشاعران المتنبي وأبو فراس الحمداني ، ولكن سيف الدولة احتضن ورعى أعظم فلاسفة العرب ، أبو نصر الفارابي ، المعروف بالمعلم الثاني ، وفي الدولة البويهية ، تقلد ” الشيخ الرئيس ” الفيلسوف ابن سينا الوزارة في عهد شمس الدولة كما هو ثابت ومعروف .
الفيلسوف إبن مسكويه تولى وزارة المال لدى الأمير الديلمي علاء الدولة ـ أبو حامد الغزالي كان من أقرب المقربين إلى نظام الملك السلجوقي ـ أبو الريحان البيروني كان على صلة وثيقة بمحمود الغزنوي غازي بلاد الهند ـ إبن الهيثم الملقب ببطليموس الثاني سعى الخليفة الفاطمي الحاكم بأمر الله إلى استقطابه ـ السهروردي المقتول كان صديقا ومقربا من حاكم حلب الظاهر بن صلاح الدين الأيوبي ـ إبن حزم الإندلسي تقلد الوزارة لدى عبد الرحمن الخامس ـ الفيلسوف إبن باجة تم توزيره في بلاط فاس في المغرب ـ الفيلسوف إبن طفيل كان وزيرا لثاني خلفاء دولة الموحدين في المغرب يعقوب بن يوسف ـ الفيلسوف إبن رشد عمل قاضيا في اشبيليا وقرطبة وفي إمارة يعقوب بن يوسف ـ إبن خلدون تولى مناصب رفيعة في سلطنة بني المرين ، ثم قاضي القضاة في مصر .
بعض الأمثلة من الغرب والشرق لا بأس بها ايضا :
في اليابان ، ، شغل فلاسفة ومفكرون وعلماء وأدباء مواقع رئيسة في الدولة ، والأخيرة أخذت بنظريات وآراء فلاسفتها ومفكريها حتى لو عزفوا عن الإنخراط في إداراتها ، سواء في مرحلة النهضة الأولى خلال عهد أسرة ميجي في آواخر القرن التاسع عشر ، أو في النهضة الثانية بعد الحرب العالمية الثانية ، ومنهم على سبيل الذكر : المفكر التربوي الشهير فوكوزاوا ، وكبير الروائيين ناتسومي سوسيكي ، وعالما الكيمياء والجراثيم شوكي شيباتا و شيباساتو كيتاساتو، والفيلسوف هاجيمي تانابي ، وفي طليعة من تأثر بهم السياسيون اليابانيون بعد الحرب الثانية ، الفيلسوف أوكاماتسو كي نيم ، صاحب نظرية العلاقة بين القيادة وهيكلة الإنتاج .
هل يمكن أن نتوقف عند كبير الروائيين اليابانيين ناتسومي سوسيكي ، ونتخيل على سبيل المثال روائيا عربيا كبيرا وزيرا في حكومة عربية ؟.
في روسيا ، وخلال مراحلها الثلاث ، القيصرية والشيوعية والبوتينية ، كان للفلاسفة والمفكرين أدوار استثنائية وذات قيمة عالية في صوغ السياسات والإستراتيجيات ، فأحد أهم قياصرة روسيا ، بطرس الأكبر، عين المفكر والأديب أنتيوخ كانتمير مستشارا له لشؤون الشرق ، وجمع قائد الثورة البلشفية لينين ( فلاديمير اوليانوف ) حوله كوكبة من المفكرين الكبار أبرزهم ليون تروتسكي وغوركي بليخانوف و جريجوري زينوفييف وليف كامنييف ، فيما كان أول وزير تربية سوفياتي بعد إسقاط حُكم القياصرة ، الأديب والفيلسوف اناتولي لوناتشارسكي ، كما أن علاقة لينين بالوسط الأدبي لم تكن أقل شأنا ، خصوصا مع الروائي الروسي مكسيم غوركي أو مع الروائي الإنكليزي هربرت ويلز أحد مؤسسي روايات الخيال العلمي ، ولكن : ماذا عن فلاديمير بوتين ؟
المفكر الإستراتيجي ألكسندر دوغين ، شكل العقل الإلهامي للرئيس بوتين ، وبالتحديد بما يرتبط بنظرية ” أوراسيا “، وكيفية إعادة إنهاض روسيا ما بعد الشيوعية عبر المزج بين الوطنية والأرثوذكسية .
هل علاقة الرئيس بوتين تقتصر على هذا المثال دون غيره؟
بالطبع … لا…
الرئيس بوتين أعاد اكتشاف كتابات ونظريات الفيلسوفين الروسيين في العهد القيصري ، الأول قسطنطين ليونتييف (١٨٢١-١٨٩١) والثاني إيفان إليين ، الذي كان معاديا للشيوعية ( توفي في سويسرا سنة 1954)، و يعمد بوتين في العديد من مواقفه وخطبه المتحدثة عن مصالح الدولة العليا الروسية ، إلى الإقتطاف من مصطلحات ومفاهيم هذين الفيلسوفين.
أين الصين ؟
الرئيس الصيني هو جينتاو ( 2003 ـ 2013) عين الفيلسوف زينغ بيغ يان في موقع المستشار السياسي الأول ، و هذا الفيلسوف أوحى إلى الرئيس نظرية ” الصعود الصيني السلمي والسلام الدولي ” ، وصنفته دورية ” فورين بوليسي ” الأميركية الإستراتيجية في عام 2010 ، واحدا من أكثر المفكرين العالميين تأثيرا في السياسيات الداخلية والعلاقات الدولية .
من الشرق إلى الغرب ، وحيث يصعب العد ويستحيل الحصر ، من زمن أثينا وروما إلى زمن الفلاسفة والمفكرين الجدد في الغرب الأوروبي الحالي .
هذه ثلاثة نماذج أوروبية تختصر دورة الزمن ، ومنعا للإفاضة والإطالة ، الأول هو ميكافيلي ( 1468 ـ 1528 ) وكتابه ” الأمير ” وتأثيراته الجمة على أنماط الحكم في فلورنسا وإيطاليا عموما ، والثاني الفيلسوف فرنيسس بيكون (1561 – 1626) المعروف في إنكلترا ب ” السيد المستشار” لدى الملكة اليزابيت ، والثالث الفيلسوف الإنكليزي الذائع الصيت برتراند راسل ( ت ـ 1970) الذي كان العقل المفكر لحزب العمال البريطاني حتى استقالته منه عام 1965 كموقف اعتراضي مسبق على احتمال انجرار المملكة المتحدة إلى التورط في حرب فيتنام استنصارا للولايات المتحدة .
وأما ألمانيا الموصوفة بوريثة أثينا و بلاد الفلاسفة ، ففي كل دوراتها السياسية ، كان للفلاسفة وكبار المفكرين والعلماء حضور طاغ وقوي ، ولو تم خفض الأمثلة إلى العقود السبعة أو الثمانية الأخيرة ، سيبرز مع أنظمتها الشمولية الفيلسوف مارتن هايدغر مع الحزب النازي وأدولف هتلر ، و ارنست بلوخ الفيلسوف الرسمي للنظام الشيوعي في ألمانيا الشرقية حتى انفضاضه عنه عام 1956 إثر ربيع بودابست .
ومع التحول الألماني نحو الليبرالية سيقفز إلى الواجهة الفيلسوف رالف دارندورف ( ت ـ 2009) وقد شغل مناصب هامة في وزارة الخارجية والمفوضية الأوروبية ، وإليه يعود الإسهام الكبير في صياغة السياسة الثقافية الألمانية في المجال الخارجي عام 1970 ، في حين أن الفيلسوف ، يورغن هابرماس ، يُعتبر الأب والمرشد السياسي والنظري لجمهورية ألمانيا الجديدة في مرحلة ما بعد النازية كما قال وزير الخارجية الألمانية الأسبق يوشكا فيشر عام 2002 ، ويقول عنه وزير الشؤون الخارجية الألمانية هايكو ماس (2018) بأنه كبير الكبار الذي بنى الجسور بين فرنسا وألمانيا.
هذان مثالان أخيران :
الفيلسوف الفرنسي لوك فيري ، المصنف في تيار الفلاسفة الجدد ، تم تعيينه وزيرا للتربية في عهد الرئيس جاك شيراك .
والفيلسوف الأخير ، وليس آخر الفلاسفة الذين تستعين الدول الحقيقية بعقولهم ، هو ريكاردو رودريغيز ، وزير التربية في البرازيل ، المعين في عام 2018.
جملة أخيرة :
يتحدثون في بلاد العرب عن العقول المهاجرة
ليتهم يتحدثون عن العقول المهجرة .
……………………………………………………………………..
*كاتب وباحث ومحلل سياسي