حاطوم يرد على شومان: مراكز التفكير صارت ساحات وغى النقاش والجدل
بقلم د. طلال حاطوم *
استوقفني عنوان مقالة الأستاذ توفيق شومان: اين مفكرو الأحزاب اللبنانية؟
ولأننا من جيل ستينيات وسبعينيات القرن الماضي ـ كما أسرّيت مرة لصديقيّ الاستاذ حسن قبلان والاستاذ غالب قنديل في مراسلة ـ نحن جيل (ديناصورات) لم تنقرض بعد، فقد أعدت قراءة مقالة الأستاذ شومان، على ما كنا نفعل أيام الجدل الفكري، مرة ثانية لوضع خط تحت بعض الكلمات والجمل، وثالثة لاستخلص مشاركة في النقاش قد لا تغني ولا تسمن من جوع.
في الشكل، أتفق مع الاستاذ شومان في توصيفه، دون أن أوافق عليه بالضرورة، بمعنى: أن أتفق معك على أن الطريق إلى مدينة طرابلس، مثلاً، تمر عبر مدينة جبيل، دون أن أتفق معك على الذهاب سوياً إليها.
لا شك أن ما ذُكر في المقالة مهم وله مدلولات، يعود التوصيف فيه إلى فترة شهدت غنى فكرياً، ولو سطحياً في بعض الأحيان، من بعض مدّعي التّنظير الذين نذكر جلساتهم ونقاشاتهم الجدلية التي لم تكن توصل إلى قواسم مشتركة، بقدر ما كانت تحاول تأكيد أو نفي رأي أو عقيدة أو فكرة، وإن بألفاظ منمّقة واستعارات (عالمية) من ساحات محلية متقمّصة أسماء أحزاب ذات شهرة على مساحة عدد من البلدان والدول العالمية
نعم، كان العالمُ الخارج من حرب عالمية ثانية يعيد تموضعه بين معسكرين اتخذا من الحرب الباردة (يافطة) تعلّق في شوارع مريدين ليسوا بالضرورة ممن يرطنون بلغة أي من المعسكرين.
لبنان وجمهوره لم يكونا بعيدين عن هذا التوصيف، خصوصاً وانه كان دوماً (جرماً يدور في فلك)، ولم يكوّن مداره الخاص ولا فضاءه السياسي المنظم والمستقل، لاسباب تعود في المحمل الى التركيبة والموقع، حيث كانت شعارات “الرأسمالية” و”الامبريالية” و”الإشتراكية” و”الشيوعية”، وكان التماهي ب”الناصرية” و”البعثية” مقدمة للإصطفاف مع أو ضد “الثورة الفلسطينية”، بل تعدّى الأمر إلى الموقف في أقصى “ضيعة” تعاني الفقر والحرمان من الحرب الأميركية الدائرة في فيتنام مع شح المعلومات (ليس كاليوم) الواصلة عن الحرب المتقدة فيها، فقط لأن أميركا (لم تكن قد أصبحت الشيطان الأكبر، بعد)، هي المعتدية على فيتنام.
في الوقت نفسه كان (اليمين اللبناني) يحاول مستتراً أن يتمايز بالشكل وحده، وإن كان بالمضمون يرسم “خط دفاع”، إن جاز التعبير، عن “الاقتصاد الحر” و”الديمقراطية”.
ربما كانت الصورة الطاغية على المشهد السياسي أن الإحزاب والحركات إن لم تكن مدعومة من الخارج ومن أحزاب دولية وتحمل الشعارات البراقة التي قد يكون من غير الممكن تطبيقها في بلد مثل لبنان، غير مقدر لها الاستمرار. (وإن كان الامام السيد موسى الصدر قد شكل حالة خاصة وكسر هذه المعادلة بتأسيس حركة أمل من داخل التركيبة اللبنانية، حيث اطلقها، تمهيداً، عبر هيئة “نصرة الجنوب” التي ضمت باقة من كل ألوان الطيف اللبناني، بل دعا مثقفين وسياسيين من خارج الشيعة الى المساهمة في وضع وثيقتها (وثيقة الـ 91 مثقف)، دون أن تكون مرتبطة بالخارج (لم تكن إيران قد اصبحت بعد الجمهورية الاسلامية، بل كانت إيران الشاه التي تعادي خط الثورة الاسلامية وتنفي الامام الخميني الى فرنسا، وتضمر الشر للامام الصدر))، ولم تكن الدول العربية في تلك اللحظة بوارد دعم حركة جديدة خارج إطار الأحزاب التي ترعاها، وليس في هذه المقالة مساحة للاستفاضة ـ وان كان لا بد منها في نقاشات تلي.
إذن، بالعودة إلى سؤال أين مفكرو الأحزاب اللبنانية؟
كان “المفكرون” في الفترة التي فصّل الأستاذ شومان (منتجاتها) الفكرية يمتلكون مساحة للقراءة والإنتماء والتنظير، ولكن كل النقاشات والمخرجات الفكرية لم تكن تتعدى، برأينا محاولات، ربما، جدية للترويج لفكرة أو عقيدة يعتبرون أنهم المدافعون عنها خصوصاً مع ما توافر من مساحة حرية تميز بها لبنان عن أقرانه من الدول العربية التي كانت لم تصل بعد إلى مفهوم “حرية التعبير”.
وكان المفكرون المبدعون تنطفىء أنجمهم مع انقسامات العقيدة المركزية، فيتحولون إلى متواجهين في حمل جزء من لواء العقيدة في وجه نظرائهم أو شركائهم في الحزب نفسه، ويتخذ كل منهم ركناً قصياً يلحقه اليه مريدون وأتباع بمقدار قوة حجته وارتفاع صوته وقوته، والأمثلة كثيرة (حزبان قوميان، مجموعة أحزاب ترفع عنوان الشيوعية، واخرى ناصرية، وبعثان، إلى قوات وكتائب…) وكلها تحت شعار: أنه لا بد من “تصحيح” في الحزب دون الخروج عن العقيدة الأساس.
نعم، كانت مساحة التعبير متاحة وإن بحدود (الكاتم)، وكان من الضروري على (الراوي) أن يقرأ “الرأسمال” ليس لحبه لماركس، بل للرد على “اقتصادنا” للسيد محمد باقر الصدر والعكس صحيح، وشراء الرسائل العشر او علم السلاسل وتفنيد (سوراقيا)، لمماحكة القوميين دون مخاصمتهم بالضرورة .
وكان الإستشهاد ب”فورباخ” دليلاً على عمق التفكير والاطلاع مثلاً، والحديث عن نشأة الكون والمادة (المادة لا تخلق ولا تُدمر)، مثار إعجاب المستمعين الذين لم يصلوا إلى مثل (درجات العلم) هذه.
كانت الجامعات، بل كافيتريا الجامعات وهو الاصح، ساحات وغى للنقاش في أفكار(سوسلوف) أو نقد (أرخبيل الغولاغ) بثقافة البكالوريا في أغلب الأحيان.
صحيح أن بعض الإشراقات الفكرية كانت تطفو في أحيان قليلة، ولكن الأصح أن الباقي كان كزبد الموج يذهب أثره عند رمال الشاطىء.
بقيت هذه (الفورة) الفكرية والحزبية حتى وضعت الحرب اللبنانية بين القبائل أوزارها، فكيف تريد أن يناقش اليمين واليسار التزاماتهما وهما أصبحا حلفاء مثلا؟
وأكثر، هل في العالم اليوم، وليس لبنان وحده، بعد (نهاية التاريخ) وفوكوياما منظرون للرأسمالية أو الإشتراكية؟ أم طغت فكرة العولمة؟ والقرية الكونية؟
أختم، قبل الأوان، أن النقاشات والبيانات والافكار لم تعد محصورة في شخص واحد كما في فترة الإنطلاق الحزبي والتأسيس، والترويج لافكار وعقائد، بل تحولت إلى وثائق سياسية تصدر بعد مؤتمرات دورية للأحزاب و(مراكز التفكير) وترسم خارطة طريق لمستقبل اصبح مكرراً.
وقعت أستاذ شومان، عشتم وعاش لبنان،
نضيف: بس هيك!
—————–
* باحث وكاتب واعلامي لبناني