“الدنيا نيوز” – دانيا يوسف*
تحتفظ البشرية بصور قليلة بالأبيض والأسود عن الإنفلونزا الإسبانية 1918-1920 – والتي وُصفت بأنها واحد من أكثر الأوبئة فتكًا، ورغم أنها لا تتجاوز 100 عام، فإن الصور تعطي انطباعا بأنها تنتمي لماض بعيد جدًا يستحيل إعادة إنتاجه مرة أخرى.
ربما يعود هذا الشعور الخاطئ لإيمان الإنسان غير المشروط بالتقدم العلمي الذي حققه، بعد قفزات نوعية واكتشافات مثل فك شفرة الحمض النووي والجينوم، وغزو القمر والمشاريع الطموحة لاستكشاف كوكب المريخ، مما جعل البشر يعتقدون أن لهم قدرة على السيطرة على الأمراض وخاصة الأوبئة.
فجأة، ومرة أخرى، تداعت لوسائل الإعلام عام 2020 صور مشابهة لتلك التي التقطت قبل قرن كامل، حيث نرى أشخاصًا يرتدون الكمامات وصور المستشفيات الميدانية التي تستقبل المرضى، لكن هذه المرة ليست بالأبيض والأسود، ولكن بجودة عالية الدقة، وفي مواجهة صعوبة إيجاد لقاح أصبح الدرع الأخير المتبقي للإنسان هو الكمامة، أو قطعة القماش التي يحاول بها ضمان استمراريته على هذا الكوكب.
هكذا بدأ الكاتب والأكاديمي المغربي حسين مجدوبي مقدمة كتابه الجديد “فيروس كورونا: العالم رهين الكمامة” الصادر بالفرنسية عن دار النشر “ألف بوكس” ويتناول فيه أول حجر صحي عالمي في تاريخ البشرية.
المؤشرات الحادة على التحول في حياتنا سلوكاً وتفكيراً، أيقظ لدى الكاتب هذا التجاوب الفكري مع الوباء، وشده إلى جذوع الأسئلة الكبرى والاستراتيجية وأحيانا الملقاة في كل اتجاه أيضاً، التي رَجَّعَتْ صَدى تقليب النظر فيها من قبل النخب الفكرية، ووسائل الإعلام بل وحتى المواطن العادي الذي وضعه قدر الاندهاش من فجائية الفيروس من جهة، وطوفان الاتصالي سواء أكان على مستوى وسائل الإعلام التقليدي أم على مستوى الشبكات الاجتماعية، وضعه في قلب النقاش المزدحم والفوضوي عن جائحة كوفيد-19.
ينطلق المؤلف بحثًا عن المريض صفر، كما يحلل سبب خروج البشرية أكثر انقسامًا من هذا الوباء، ويبرز كيف أن عدم الثقة بين القوى العظمى يعيق إنتاج لقاح لإنقاذ البشر من حالة شلل.
ويعالج مجدوبي في الكتاب، الواقع في 162 صفحة من الحجم المتوسط، كيف أحدث هذا الضيف المفاجئ “فيروس كورونا” منعطفاً في طريقة عيش الإنسانية وفرض عليها ما اعتبره “الحرب العالمية الثالثة غير المرتقبة”.
ويبرز أن البشرية عانت ويلات الأوبئة سواء تلك الناتجة عن الفيروسات أو البكتيريا، لكنها لأول مرة تعاني بشكل جماعي من جائحة فرضت عليها أول حجر صحي في تاريخها من الهند والصين الى القارة الأميركية مرورا بأوروبا وأفريقيا. فقد كان أكثر من 4 مليارات من البشر تحت الحجر الصحي.
ويقول المؤلف ملخصأً كتابه “الإنسانية عانت من أول حجر صحي في تاريخها، فعليها التحرك من أجل أجندة كونية تهتم بالتعليم والبحث العلمي والصحة والرفاهية للجميع، أي من أجل مصير مشترك واحد”.
ويحصي مجدوبي الخسائر البشرية والاقتصادية، وكيف سيكون ضحايا ما بعد مرحلة كورونا أكثر بكثير من الموتى بسبب الفيروس، إذ ستكون الخسائر الاقتصادية مستقبلاً خطيرة وتهدد النموذج المالي الاقتصادي بالانهيار، وهذا سيرفع من نسبة الانتحار والموت بسبب الحرمان. ويعتقد استمرار هذه الخسائر سنوات طويلة مثلما يحدث دائماً مع الكوارث والحروب الكبرى.
ويدعو المؤلف، الذي انتقل إلى مدينة ريدينغ البريطانية بعد قرابة ربع قرن قضاه بإسبانيا، إلى رهان البشرية على أجندة موحدة نحو المصير المشترك الواحد من خلال إعادة التعليم والبحث العلمي الى واجهة الانشغالات بعيداً عن الأيديولوجيات والصراعات السياسية، ويستشهد بأن البشرية تقدمت بعلماء أمثال ابن سينا ونيوتن وأينشتاين ولويس باستور وليس بسياسيين.
وفي الفصل المعنون بـ “كورونا فيروس يرسم خريطة جيوسياسية للعالم” يقف على أهم التغيرات التي أصبحت ملموسة للمتتبعين والرأي العام الدولي وتلك المرتقبة. في هذا الصدد، يركز على محاور متعددة، الأول وهو نهاية العولمة في شكلها الحالي بعد إغلاق الحدود بين الدول وتراجع الاقتصاد العالمي، ووعي الدول بالعودة إلى التصنيع المحلي بعدما عانت من خصاص الكثير من المواد التي كانت تستوردها ووجدت صعوبة إبان هذا الوباء. ويشكل الوباء رصاصة الرحمة تم إطلاقها على العولمة. وهي النتيجة التي قد تكون مثار جدل إذ قد تفتح نقاشا واسعا في هذا الاتجاه.
وارتباطاً بهذا، يرى ضرورة أن يكون القرار الأخير بشأن الأوبئة العالمية في يد لجنة علمية قوية وليس في يد رؤساء (دول وحكومات) وإن جرى انتخابهم ديمقراطياً. ويدعو إلى تعزيز صلاحيات المنظمة العالمية للصحة بعيداً عن المزايدات السياسية لتكون بمثابة طبيب العالم.
ويتطرق الكتاب إلى الانتقادات التي توجه إلى العلماء بالتقصير في إيجاد دواء سواء لمعالجة مرض كورونا أو اللقاح الذي يحمي الإنسان من الإصابة به. ويطالب بأخذ بعين الاعتبار عاملين: أن البحث العلمي لم يبلغ المنتهى وخاصة في المجال الطبي، فقد عجز عن إيجاد أدوية للكثير من الأمراض ومنها الناتجة عن الفيروس مثل مرض السيدا، ولكن العلم آخر المطاف ينجح في التغلب على الأمراض المعدية. وبفضله تتقدم البشرية وتحافظ على نفسها من الفناء.
وعلاقة بالعامل الثاني، يعتقد مجدوبي أن جزءاً من القصور يعود إلى تقاعس الدول في تمويل أجندة حقيقية للعلماء مما يحد من حريتهم، كما أنها تركت صحة المواطنين في يد الشركات المتعددة الجنسيات التي تبحث عن الربح أكثر من القضاء على الأمراض.
خصص الكاتب فصلاً كاملاً لموضوع العلماء بعنوان “في انتظار لويس باستور جديد” وفيه ينتقد من جهة هيمنة السياسي على العلمي إبان هذا الوباء، ومن جهة أخرى ينتقد إهمال الدول للبحث العلمي في الأوبئة وباقي الأمراض وترك ملف شائك في يد شركات الأدوية التي تعمل وفق أجندة ربحية، حيث يقول أيضاً: ما أحوج العالم اليوم الى علماء من طينة الفرنسي باستور الذي عمل بكل حرية بعيداً عن تأثير الشركات التي لم تكن موجودة في وقته.
ويتساءل: هل يتعين على الدول أن ترهن حماية أمنها القومي بالشركات الخاصة حينما تفوت إليها هذا الأمر الطبي والصحي؟ ولما كان الشعب المكون من المواطنين هو أبرز من يتعين حمايته، فكيف يحصل أن تترك صحة الشعب في يد شركات أجنبية؟
ويحلل الكاتب مختلف التقارير والآراء التي تتحدث عما يسمى الحرب الباردة الثانية، وهذه المرة بين بكين وواشنطن وليس بين واشنطن وموسكو. ويستعيد قرارات الإدارة الأمريكية نهاية 2009 عندما اعتبرت الصين الغريم المستقبلي، ولم يعمل فيروس كورونا سوى على إضفاء الطابع الرسمي لحرب من هذا النوع، والتسريع بها لتصبح المعطى الجديد الذي يقسم العالم.
ومع ذلك يشير المؤلف لما يعتبره خيبة أمل غالبية مواطني العالم عندما اعتقد كثيرون بداية تفشي الجائحة أن البشرية قد وصلت لدرجة معينة من النضج للمشاركة والعمل الجماعي في مواجهة التحدي الجديد، والسعي لتطوير لقاح عالمي بتنسيق من الأمم المتحدة، لكن ما حدث في الواقع كان محاولة كل دولة صناعة لقاحات “قومية” مما يوحي بأن البشرية ستخرج من الجائحة أكثر انقساماً.
يتوقف الكاتب كثيراً عند التطورات الجيوسياسية التي تحملها الجائحة من خلال بدء تشكل خريطة دولية جديدة تتجلى في الفوز المعنوي للصين على الولايات المتحدة.
يقدم الكتاب مقارنة حول معركة السيطرة على الفيروس بين الصين التي نجحت في التغلب عليه رغم ظهوره في أراضيها، وبين معركة باقي العالم وأساساً الغرب الذين فشلوا في احتوائه. وينسب ذلك إلى تعاطي الصين مع الفيروس وكأنه حرب بيولوجية، ولهذا زجت بالجيش وخصوصاً الطب العسكري لمواجهته، وساعدها أنها تعد مصنع العالم للمعدات الطبية علاوة على دور حاسم تقوم به وهو أنها تحمل مشروع زعامة العالم مستقبلاً، ولهذا عملت كل مجهوداتها للانتصار على الفيروس حتى لا يتأثر مجتمعها واقتصادها.
فقد نجحت بكين في احتواء الفيروس، ولم يتجاوز عدد الموتى 5 آلاف والمصابين 100 ألف، وهي الدولة ذات المليار و300 مليون نسمة، في حين يسجل الغرب أكثر من 60% من حالات العالم سواء الموتى أو الإصابات، بحسب الأرقام والإحصاءات المعلنة التي استند إليها الكتاب.
يتطرق الكتاب الموزع على 11 فصلاً لقضايا أخرى مثل: كيف انتقل العالم إلى الثورة الرقمية التي فرضتها الجائحة بعدما أصبح جزء من النشاط البشري، مثل الصحة والتعليم والدبلوماسية، يتم العمل به عن بعد بفضل الإنترنت. وكيف سيكون العالم مسرحاً لمزيد من الفوارق الاقتصادية بين عالم أول يمتلك الموارد للخروج من الأزمة الاقتصادية وعالم ثالث سيزيد غرقاً في القروض والديون الخارجية والداخلية.
ويتجلى هذا في عناوين الفصول ومنها “لإنترنت ينقذ العالم من الإفلاس” وربط بشكل لافت بين أزمة الأوبئة وظهور آليات التواصل بعد كل وباء يضرب البشرية جمعاء، فيكون عنصراً من عناصر المواجهة للوباء نفسه مثلما حصل مع اختراع المطبعة بعد الطاعون الأسود، وكيف تتقدم العلوم بحثاً عن حلول. ويكتب بأن الإنترنت تعود إلى التسعينيات، لكن تأريخها منعطفاً في تاريخ البشرية هو محطة وباء كورونا فيروس، إذ تحولت إلى الآلية التي أمنّت وحافظت على النشاط البشري إبان الحجر الصحي الشامل. فمن جهة، حافظت على التجارة والعلاقات الدبلوماسية بين الدول والعمل عن بعد عموماً، ومن جهة أخرى شكلت منصة عن بعد للتعليم الذي هو أساس الأمة. ويجزم بأن انتقال البشرية من مرحلة المطبعة إلى العالم الرقمي يجد تاريخه الحقيقي في هذا الوباء. وفي نقطة أخرى مرتبطة بالعالم الرقمي، يبرز د. مجدوبي وهو باحث أكاديمي في مجال علوم الإعلام، كيف ساهمت شبكات التواصل الاجتماعي في تقوية شعور انتماء الشعوب إلى إنسانية واحدة، وهي تواجه هذا الفيروس رغم الاختلافات السياسية والإيديولوجية.
ويتوقف الكتاب عند محور رئيسي هو ظهور رأي عام عالمي شبه موحد يتساءل عن مصير الإنسانية بعد عجز الطبقة السياسية الحاكمة عن مواجهة الوباء، نتيجة إهمال قطاعات حيوية مثل التعليم والصحة والبحث العلمي. ويوجه دعوة إلى ضرورة استغلال هذا الوعي العالمي لصياغة “أجندة كونية” تعكس حرص الإنسانية على مصير مشترك، لكل شعوبها في تجاوز للحساسيات السياسية والثقافية والإيديولوجية.