موت حضارة ..!
بِقَلَم العميد مُنذِر ألأيوبي *
منذ 22 تشرين ألثاني عام 1943 تاريخ نيل الوطن اللبناني إستقلاله و ألدولة في مسار إنحداري من القمة إلى ألدِرك ألأسفل الذي وصلنا إليه ، و إذا كان لبنان مَرَّ في حقبات ذهبية مضيئة كعهد ألرئيس اللواء فؤاد شهاب فهي إستثنائية بألمطلق وضعت أسُس الدولة الحقة ، لكن من توالى نادرآ ما حفظ ألأمانة أو سار في مسلك ألتطوير ألمتوجب سواءً سياسيآ أو إقتصاديآ إلى غير ذلك من نواحٍ أُخَر ..!
في سياق متصل ، شكل التموضع الجغرافي عبئآ على الوطن الصغير محاطآ بأثنان ثالثهما البحر ، إرهاب دولة متمثل بعدو غاشم مجرم جنوبآ و أطماع شقيق شرقآ و شمالآ دأب على بسط مظلته ألسياسية و ألأمنية في معظم ألأحيان ؛ كما ساهمت نكبة فلسطين عام 1948 و تهجير الشعب الفلسطيني و تشتته في أرجاء الاقليم حيث كان للبنان نصيب وافر مستضيفآ مئات ألآلاف من اللاجئين سواءً من منطلق إنساني أو قومي أو على مقولة “مرغمآ أخاك لا بطل” في فرض ثقلٍ نوعيٍ على التركيبة السياسية و ألطائفية مست جوهر الكيان الوطني محفزة شعورآ و تيارآ عروبيآ ذو وجه إسلامي إحتضن المقاومة الفلسطينية و كان لاحقآ من أسباب حرب عام 1975 ..!
أتت ألحرب ألأهلية بمن شارك فيها من أحزاب و طوائف لبنانية محطة تهديد وجودي تحت عناوين ألغبن
و إفتئات طائفة أو مذهب على آخر تارة أو على خلفية جيوسياسية أو إيديولوجية تارةً أخرى ؛ إذ لم تبق دولة من عرب أو عجم إلا و وغمست أصابعها في ألجرح ألغائر لتنفخ في أتون الفتنة و تؤجج اللهيب ألمستعر ،
و رغم أن إتفاق ألطائف أرسى أسس دولة جديدة قائمة على توازنات لا بد منها و لو هشة لكنها كفيلة بنحر الوطن طوعآ عند ألإقتضاء ؛ إلا أن اللبنانيين فشلوا في تطويره كما لم يحسنوا إدارة دولتهم لا بل هدموا معظم دعائمها لأسباب شتى ليس أقلها أستعانة أو إستقواء فريق على آخر بدعم مهين في معظم ألأحيان من دول ألخارج و من منطلقات تقوقع ديني مذهبي أو سياسي و حتى ثقافي ..!
من جهة إخرى ، تحمل الشعب اللبناني عورات النظام و سوء أداء القيمين حكامآ و إداريين لكن ألفساد الذي عمَّ مع تفاقم إنقسام سياسي عامودي مذهبي ألشروخ خاصة في العقد الأخير بين فريقي 8/14 بألتوازي مع إستتباع و إستزلام و زبائنية إضافة إلى طفو فطريات أوليغارشة طغمة مالية مستبدة تقاسم تركيبتها سياسيين و إقطاعيين متزعمين متمولين و نافذين تمكنت من ألإستيلاء على مقدرات البلاد إلا أن العباد على تعدد شرائحهم الأجتماعية بقوا صابرين قانعين بمصيبتهم ساعين في مناكبها لتأمين قوت أيامهم أو الحفاظ على مستوى معيشتهم ألمتوسط ألمقبول ..
أتت ثورة 17 تشرين لترسم مشهدية جديدة بعد أن نفذ الصبر و تعاظم الوجع ، مطالبات محقة في تجديد
أو تغيير بنية النظام و ألطبقة الحاكمة مع رفع شعار العدالة و ألمساواة و استقلالية القضاء و محاسبة الفاسدين كما إستعادة ما نهب من مال ألى الخزينة المثقوبة و الجيوب الخاوية ..! كثيرين من رواد صالونات “ألأغنياء الجدد أو ألطامحين المستوزرين أو زوار ألسفارات” رأوا ان الرد على ألثورة أتى في توقيت مريب مموهآ بلقمة الخبز إذ قاد القابضين على اعناق البلاد كما المتحالفين معهم هجومآ معاكسآ أسقط قيمة العملة الوطنية و زاد المعاناة في سياسة “تركيع” خطيرة ألنتائج تجرأوا و راهنوا عليها وفق مقولة “داوني بألتي كانت هي ألداء” ..
تزامنآ ، لم يُلقِ قسم كبير من أهل البلد بالآ لجائحة “كورونا” إذ لو اشتدت لكانت عليهم وبالآ ، هم إختبروا قساوة الحياة و ظلمها ، لا بل أمسوا على تماس مباشر مع تلاشٍ مريع لحسِ المسؤولية المجتمعية و ألقيم الانسانية ، ظواهر ليس أقلها ألموت ألإرادي ألعَمد دون أن يرف جفن مسؤول أو ينفطر قلب مكتنز معلول في بعض أوجهها على سبيل ألإستشهاد : إقدام المواطن جورج زريق على إحراق نفسه لسوء الاحوال الاقتصادية و عدم قدرته على دفع القسط المدرسي لإبنته في بلدة بكفتين قضاء الكورة ، في بلدة تعلبايا إحدى مدن “إهراءات روما” السهل الخصيب الذي تحول شماله الشرقي حقلآ لحشيشة الكيف أقدم لاجيء سوري على احراق نفسه لتردي وضعه المعيشي و في ساحة رياض الصلح حاول احد المحتجين إحراق نفسه ب سكب مادة ألبنزين تمكن المتظاهرين من إنقاذه في اللحظة الآخيرة بعد ان اصيب بحروق وشمت جسده رمزآ لإستبداد و فساد مع وباء نسيان ألَمَ بكثيرين من رجال دنيا و دين ، الى حوادث انتحار مؤسفة متكاثرة متكررة في بلد لطالما كان مفخرة ألكوكب ليعلنه صاحب ألقداسة ألشاملة البابا يوحنا بولس الثاني في عبارته الشهيرة”لبنان أكثر من بلد ، إنه رسالة”…
مما لا شك فيه أن ألم اللبنانيين أليوم يحفر عميقآ في فكرهم و سلوكهم و قناعتهم بكينونة أو ديمومة وطنهم و هذا الأمر يصيب مقتلآ ، أصبح الاستقلال و الدولة ألمتحضرة بندآ رومانسيآ حالِمآ هم يتمنون مع ألأسف عودة ألإنتداب الفرنسي بدل التسكع المذل على أبواب السفارات للهجرة ..! إستطرادآ ان إنهيار القيم الانسانية و الاخلاقية مؤداه موت حضارة وطن هي في مهدها ألأبجدية الفينيقية ؛ شعوب و مجموعات سكنت هذه الثغور و عشقتها بنت حضاراتها بين مغاور النساك في الجبال الشامخة و المدن الحضرية المحروسة بالقلاع الأيوبية و المملوكية و الصليبية إضافةً ألى أنها موئل الانبياء و الرسل و ملاذ القديسين .. يقول ألمؤرخ “أرنولد توينبي” Arnold J. Toynbee في كتابه A Study Of History (( إن ألحضارات ألعظيمة لا تموت قتلآ ، و إنما إنتحارآ )) .. عسى ألا نتجرع سُم ألإنتحار في مئوية لبنان الكبير بدل شرب نخبِ ألذكرى ..!
بيروت في 09.05.2020