“الدنيا نيوز” – دانيا يوسف
حين يصبح المرء وحيدا أو ضجرا تبدو الصورة قاتمة، يشعر بالمرارة بين ما تمناه وما صار عليه، لا توجد نقطة نور واحدة، ولم يعد هناك معنى في النظر إلى السماء، إذ لا سماء هناك. لكن في صناعة السينما هناك الأمل، الآلاف من الناس يبعثون الروح في الأشياء الراكدة، يجعلون الأحلام محتملة حتى لو انطفأت شعلتها فيما بعد تحت وطأة واقع أكثر قبحا من خيالاتنا المثالية، وهذا هو جمال السينما والفن عموما. في هذا المقال نتناول أربع حكايات سينمائية عن شخصيات تشعر بالملل، تحاول تجاوزه والانتصار عليه، كل بطريقته الخاصة.
1- المنسي: بطل من صناعة الملل
في الفيلم الذي أخرجه شريف عرفة وكتبه وحيد حامد، يوسف المنسي -عادل إمام- بطل الفيلم عامل تحويلة نسيه المجتمع، مهمش مكانيا واجتماعيا، يعاني من الملل ورتابة الحياة “أنا لو زهقت أتسجن”، ويحاول هو نسيان هذا الأمر عبر التحليق بخياله في عوالم بعيدة التحقيق” “أنا الجواز بتاعي سهل أوي، أنا أختار العروسة أحطها في دماغي وأبص في الضلمة اللي قدامك دي”، يوسف يعلم أنه أصبح عاجزا عن الحياة مهما استمر في الحلم، تجاوزته الحياة وغرق في رتابتها.
“أنا فاتني قطارات الدنيا كلها، عارفة حضرتك وأنا صغيّر، فاتني قطر اللعب مع العيال الصغيرين، ولما كبرت شوية وروحت المدرسة يا دوب اتشعبطت في السبنسة بتاعة التعليم، وحتى شقاوة الشُّبان القطر بتاعها يعدي عليَّ من غير ما يهدّي، واديني دلوقت بشتغل في السكة الحديد قطارات كتير تعدي عليَّ ولا يعبروني”.
تلقي الصدفة (غادة) في طريقه، سكرتيرة رجل الأعمال الذي يقدمها هدية إلى واحد من الكبار خلال إحدى الحفلات، تهرب (غادة) وتقع في طريق يوسف الذي يظن أنه يحلم في بداية الأمر. يرسل رجل الأعمال رجاله لإحضار السكرتيرة وتلقين يوسف درسًا لا ينساه، فيقرر المنسي أن ينتقم، انتقام المنسي في الفيلم لم يكن دفاعا عن كرامته، وإنما إنقاذًا لما تبقى من روحه، يوسف رأى في (غادة) حلما تعلق به وأنقذه من رتابة حياته، “أبوسك في الحلم آه لكن في الحقيقة صعب”، وعندما ينجح في إنقاذها ينفذ طلبها في بداية اللقاء الذي جمعهما “ممكن توقفلي قطر؟” ينقذ المنسي (غادة) ويصبح بطلا صنعه الملل، يتراجع إلى الوراء وينضم إلى صفوف البسطاء، أولئك الذين لا يملكون رفاهية الرحيل عند الشعور بـ “الزهق” ولا يشعر بهم أحد.
2- نحو البرية… والأشياء المفقودة Into the wild
كريستوفر مكندلز مغامر أمريكي هاجر إلى ألاسكا في أوائل التسعينيات ومعه القليل من الطعام والمعدات التي اعتقد أنها ستساعده في المعيشة معزولًا عن البشر. في 2007 كان العرض الأول لفيلم Into the Wild بطولة إيميل هيرش الذي خسر أربعين باوند من وزنه من أجل الدور، الفيلم مأخوذ عن كتاب يحمل نفس الاسم ويحكي قصة (كريستوفر) الذي أنهى دراسته الجامعية وصدم والديه بقراره المفاجئ بالتنازل عن كل شيء، كان كريستوفر يشعر بالضجر، يشعر أن الحياة الحقيقية ليست في اتباع الطريق الذي يرسمه الآخرون، قرَّر أن يعود إلى البدايات ويستكشف الحياة بنفسه معزولًا عن كل ما هو بشري، حطم سيارته القديمة وأشعل النيران في بطاقة إثبات هويته وأحرق المال الذي يمتلكه وانطلق وحيدًا. في أحد مشاهد الفيلم نرى كريستوفر وقد سألته امرأة عن مكان أهله، قال لها: “إنهم يعيشون في ادعائهم وكذبهم في مكان ما”. كريستوفر كان صلبًا صادقًا وسط عالم بلاستيكي بلا معنى، طوال مدة عرض الفيلم نرى كريستوفر يعيش الحياة البدائية، لكنه يشعر بالسعادة والرضا حتى عندما كان يصارع الموت.
ما الذي يدفع المرء لفعل شيء كهذا؟ كريستوفر رفض القوانين والعادات، كان يرى أن الإنسان في هذا العصر يسير وفق سياسة القطيع نحو شعور وهمي بالرضا والأمان الهش الذي يظهر في صورة كاذبة تدَّعي الإيمان القوي.
أخرج الفيلم المخرج والممثل (شون بن)، ومن المعروف أنه انتظر عشر سنوات كاملة حتى يحصل على موافقة عائلة (مكندلز)، ترشح الفيلم لجائزتي أوسكار في فئات أفضل ممثل مساعد وأفضل مونتاج.
3- نادي القتال: ثورة منتصف العمر Fight Club
نُشرت رواية (نادي القتال) عام 1996، وحوَّلها ديفيد فينشر إلى فيلم من بطولة براد بيت وإدوارد نورتون عام 1999، يحكي الفيلم قصة شاب (إدوارد نورتون) موظف في إحدى شركات السيارات، يعاني من الأرق والملل ورتابة الحياة، يقترح عليه طبيبه أن يذهب إلى جلسات العلاج الجماعية مع المصابين بالإدمان والأمراض المستعصية حتى يدرك كم هو تافه الألم الذي يعاني منه!
يشعر الشاب بالتحسن ويقل التحسن تدريجيًّا مع ظهور شخصية (مارلا) التي تظهر وتختفي أكثر من مرة خلال أحداث الفيلم، على متن إحدى الطائرات يتعرف على تايلر دردن (براد بيت) وينتقل معه بعد أن وجد شقته محترقة، يقوم الشاب وتايلر بتشكيل نادٍ للقتال، تتزايد أعداد المنضمين ويتحول نادي القتال إلى منظمة ثائرة تسعى لنشر الفوضى.
بطل الفيلم موظف في منتصف العمر أو من “أصحاب الياقات البيضاء”، يعاني من الأرق وغياب المعنى في حياته، يشعر أن حياته ينقصها شيء ما، من منا لم يشعر بذلك يومًا؟ الراوي/الشاب في الفيلم هو مثال على الشخص الذي دهسته عجلات الحضارة، يحاول البحث عن السعادة ويشعر بالتشوش والغضب ولا يملك الكثير من الخيارات أمامه، حتى إن امتلكها يشعر بالعجز عن التغيير، بطل الفيلم في النهاية يدرك أنه كان مجبرًا على أن يواجه الشر بشّر أكبر منه، يستعين بالعنف واللامبالاة، يعلم أعضاء النادي صناعة قنابل يدوية ويفخخ كل البنوك، يستعيد ذاته من (تايلر) ويطلق النار على نفسه قبل التفجيرات، ليموت (تايلر) ويبقى هو ويستعيد وعيه بعد ممارسة العنف والثورة ضد المجتمع. يقف ممسكًا أيدي (مارلا) ويشاهد نتيجة محاكمته للبناء الاجتماعي في بلاده.
4- تائه في الترجمة: لحظات مختلسة وذكريات جميلة Lost in Translation
في الفيلم الحائز على جائزة أوسكار أفضل سيناريو أصلي نرى الممثل المشهور (بيل موراي) الذي يذهب إلى طوكيو لتصوير سلسلة دعائية لشركة ويسكي، وتجمعه الصدفة بشارلوت (سكارليت جوهانسن) التي ترافق زوجها المصور في رحلته للعمل، في البداية تكون اللقاءات بشكل عابر، مع تقدم الأحداث يبحث كل منهما عن الآخر وتتطور العلاقة بينهما.
في أفضل أفلامها، تتبع صوفيا كوبولا حالة الروتينية والملل التي تصيب الشخص حين يشعر بالوحدة الحقيقية في مكان غريب وسط أناس لا تفهم لغتهم حتى، (بوب) يمر بهبوط في مسيرته، ويشعر بالملل من حياته الزوجية التي تحولت إلى ما يشبه اجتماعات الموظفين وأصبحت خالية من العواطف، بينما (شارلوت) تشعر بالوحدة وتجلس أمام شرفتها وتعيد تقييم حياتها، زوجها ليس الشخص الذي حلمت به، والعالم أقسى وأكثر رتابة مما توقعت، الحالة النفسية لكلا الشخصيتين منحت العلاقة بينهما مذاقًا مختلفًا، خاصة مع وجودهما في مكان غريب يتحدث سكانه لغة مختلفة، كلاهما كان يحتاج إلى شخص يقاسمه يومه، يستمع إليه ويسير معه ويتماهى مع رغباته وجنونه، حتى مع علمهما بالنهاية الحتمية للعلاقة، لكن هذه النهاية لن تمحو اللحظات السعيدة التي يتذكرها المرء من حين لآخر، هذه الصورة فيها الكثير من الود والرضا والتقبل الذي يشعر به المشاهد نفسه عندما يحتضنان بعضهما بعضًا، ويلقي (بوب) في أذن (شارلوت) بكلمات الوداع، وتصبح صورة طوكيو أقل حدة وغربة.