“الدنيا نيوز” – دانيا يوسف
لوحة العبد المحظوظ أو The Fortunate Slave ليست لوحة عادية، فقد رسمها رسَّام إنجليزي في عام 1734، وظاهريًا تبدو أنها مجرد رسمة. لكنَّ ما يميزها حقاً عن جميع لوحات المشاهير الإنجليز في القرن الثامن عشر هو أنَّها اللوحة الأولى لشخصٍ أسود البشرة. وحالما تعرفون قصة الشخص الذي يظهر فيها، واسمه أيوب سليمان ديالو، ستدركون ما الذي يجعل هذه اللوحة استثنائية. وُلِد ديالو وتربَّى في شرقي السنغال لعائلةٍ مُسلمة بارزة. كان متعلما تعليما عاليا ومن عائلة ثرية ومؤثرة، ويجيد العربية بالإضافة الى لغته المحلية. وعُرِف بذكائه الشديد وذاكرته القوية منذ نعومة أظفاره. فبحلول عامه الخامس عشر، كان ديالو قد حفظ القرآن الكريم كله، ودرس تعاليم المذهب المالكي حتى فهمها وحفظها. لكن لسوء حظ ديالو، سرعان ما تغيَّرت حياته من حياةٍ مليئة بالدراسة والعلم إلى جحيم العبودية، إذ كانت السنغال من أكبر ضحايا تجارة الرقيق العابرة للأطلسي.
ديالو في الأسر
وبحلول عامه الثلاثين، أسرته مجموعة تخطف الأفارقة للمتاجرة بهم، في سياق ما عرف بين القرنين السادس عشر والثامن عشر، بتجارة العبيد الواسعة عبر المحيط الأطلسي- ضمن “مثلث تورط أخلاقي” ربط أفريقيا ببريطانيا من خلال أسطولها البحري، بأمريكا ومزارع القطن والتبغ حيث كان الطلب على الأيدي العاملة كبيرا- واستُعبِدَ وشُحِنَ إلى الولايات المتحدة، وباعوه للعمل في مزرعة تبغ بعد أن أرست سفينته في أنابوليس بولاية ماريلاند في عام 1731.
ورغم الوحشية والإساءة اللتين تعرَّض لهما ظلَّ ديالو ملتزما بشعائر الإسلام، فكان يذهب إلى غابةٍ قريبة ليُصلي الصلوات اليومية. وبينما كان يُصلي أهانه أحد الأطفال ورمى التراب وقاذورات في وجهه فقرَّر ديالو الفرار، لكنَّه أُسِر مجددا وسُجِن. من سجنه عكف ديالو على كتابة خطابٍ باللغة العربية لإرسالها إلى والده في أفريقيا، لكنَّ هذا الخطاب وقع في يد جيمس إدوارد أوغلثورب، مدير الشركة الملكية الإفريقية، ومؤسِّس مستعمرة جورجيا الأمريكية. وحين قرأ أوغلثورب الخطاب، كتب أنَّ كلمات ديالو أثَّرت فيه، ووضع ترتيباتٍ لإطلاق سراحه وإرساله إلى إنجلترا.
ديالو في إنجلترا
وصل ديالو بالفعل إلى إنجلترا في عام 1733، استُقبِلَ بصفته رجلاً حرًا وسط الشعب الإنجليزي، فصنع صداقاتٍ في دوائر النخبة، وكان كثيرًا ما يدخل في مناظرات مع قساوسة وأساقفة مسيحيين. وفي وقت عُرِف بالظلم العرقي الشديد، انبهر الناس بذكائه ومعتقداته التوحيدية وتقواه، عكس إعجاب النخبة به وبقدرته على الحديث عن حكايات حول أفريقيا. كذلك شدّهم تعبيره عن قناعاته الدينية وعن الإسلام. ترافق كل ذلك مع سلوكه وأخلاقياته التي كانت تدلل على خلفية اجتماعية متميزة، وعن ذكائه أيضا، اذ تعلم كتابة الانكليزية وقراءتها أثناء إقامته في لندن. ترجم مخطوطات باللغة العربية لجامع التحف والمخطوطات سير هامز سلون، الرجل الذي كونت مقتنياته ما عرف بعد ذلك بالمتحف البريطاني. وقد دفع إعجاب سلون به لأن يرتب له لقاءً مع الملك جورج الثاني والملكة كارولاينا في القصر الملكي. وأهّله مجمل الاهتمام من نخبة المجتمع، لأن يكون عضو جمعية “جنتلمانز سوسايتي أوف سبليدنغ ” الخاصة برجال النخبة. في العام 1734، صدرت سيرته بتحرير من توماس بلوويت الذي رافقه في سفره، وكان عنوانها “مذكرات حياة جوب”. ويرى دارسو التاريخ البريطاني أن المذكرات ساهمت في خلق تفهم شعبي لثقافة الغرب الافريقي، الهوية السوداء، والدين الاسلامي. وعلى رغم الاحتفاء والمناصرة اللذين أحاطا بهذا الرجل ومصيره الغرائبي، إلا أنه في النهاية فضّل العودة إلى بلاده.
وتواصل الرسَّام ويليام هور معه لرسم لوحته الشهيرة، ما يُضفي أهميةً على هذه اللوحة ليس فقط أنَّ الشخص الظاهر فيها أسود البشرة، بل أيضًا مظهره في اللوحة. فحينها كان الأشخاص ذوو الأصول الإفريقية يُرسمون في القرن الثامن العشر، كانوا يظهرون في جميع اللوحات تقريبا في وضعياتٍ عنصرية مُهينة، وكانت ملامح وجوههم تُرسَم بطريقةٍ غير طبيعية. ولم يظهروا قط في مقدمة الصور، بل كانوا يُوضعون في الخلفية غالبا، ويظهرون على أنَّهم أشخاصٌ مخيفون وحشيون. لذا فهذه اللوحة هي اللوحة الأولى التي تُظهِر مسلما إفريقيا مُحرَّرًا من العبودية، بصفته إنسانا، بل ونبيلاً كذلك. فوضعيته واتَّجاه مقدمة جسده أختِيرا بعنايةٍ ليُظهراه محبوبًا بدرجةٍ أكبر، وتعابير وجهه لطيفة وليست شريرة أو مُزعجة. لكنَّ المميز في الصورة حقًّا هو الكتاب الأحمر المُعلَّق في رقبته، فهذا الكتاب واحدٌ من ثلاثة مصاحف كتبها ديالو من ذاكرته فقط، في أثناء احتجازه في السجن. لذا فمن عدة نواح، تعرض هذه اللوحة نبذةً موجزة عن قصته الاستثنائية رجلٌ متدين من غرب أفريقيا استُعبِدَ وتعرَّض لإساءاتٍ جسدية ونفسية، ثم نال الاحترام والحرية من مجتمعٍ كان يعتقد أنَّه إنسان أدنى منه منزلةً، ولم يفقد طوال سنوات عبوديته اعتزازه بهويته: رجلٌ مسلم أسود البشرة.
فقدت اللوحة لسنوات طويلة وساد اعتقاد بأنها ضاعت إلى الأبد، لكنها ظهرت في سوق مزاد اللوحات عام 2010، وبيعت ب 554،937 جنيهًا إسترلينيا.