هكذا صوَّر ادباء العالم وشعرائه الحروب وهكذا رسموا ويلاتها
بقلم : دانيا يوسف*
في البدء كانت الحرب، افتتحت بها الإنسانية وجودها منذ قابيل وهابيل، وكانت وستظل طريقاً للخلاص وربما للتطهر وربما للبقاء. أن يموت الآخر لتعيش ليس شعاراً ولكنه حقيقة الصراع وأزليته.
سمة إنسانية واكبت تاريخ البشرية، سجلتها النقوش على جدران الكهوف والمعابد ثم خلدتها الحروف في الملاحم الكبرى وفي بطون الكتب وعلى صدر المسلات.
تجربة معقدة عجزت الكلمة عن الإحاطة بإفرازاتها ومن قبل بدوافعها وبما تفجره من آلام ودماء. من الحرب تفجرت لغة وانبثقت أفكار وانطلق أدب، رغم إنسانيته وارتباطه بالإنسان تفرد بمصطلح خاص هو “أدب الحرب” ليكون شاهدا على ما تقترفه البشرية من ظلم وقتل ودماء من أجل كينونتها وربما من أجل صنع مجد واهِ بثمن غال هو الأرواح.
أدب الحرب منذ فجر الانسانية:
عرفت الانسانية كتابات متعددة منذ فجرها البعيد، عندما ذهب الشاعر الأعمى هوميروس ليكتب أعظم ملحمة شعرية لتصوير حرب طروادة، ويسرد تفاصيلها شعرا. وإذا كانت الإلياذة هي التعبير الأمثل في فجر العالم الغربي، فلدينا في الشرق عدة تمثيلات وتعبيرات ملحمية تسرد أشكالا وأنواعا من الحروب الصغيرة والكبيرة. وفي هذا السياق لا بد من ذكر السيرة الهلالية التي تنفرد بتصوير الحروب العربية الطويلة الأمد والتي انتقلت من جيل إلى جيل، ثم من مكان إلى مكان، مثل ملحمة سيف بن ذي يزن، وذات الهمة، وعنترة بن شدّاد. ونذكر ملحمة الشاعر “عمرو بن كلثوم” وهو يصور فيها قوة “تغلب” التي طحنت الأعداء في حرب البسوس و بقوة أبطالها المنتشرين براً و بحراً.
بعد الجاهلية أتى الإسلام و لم يتوقف شعر الحرب واشتهر في هذا العصر “كعب بن زهير” الذي كتب ملحمته في معركة “بدر الكبرى” التي تكالب فيها الأعداء ضد المسلمين.
وفي العصر العباسي برز المتنبي وأبي تمام والبحتري إلا أن المتنبي سبق هؤلاء الشعراء فبرع في وصف المعارك أكثر منهم . وقد قال عنه ابن الأثير: “إذا خاض في وصف المعركة، كان لسانه أمضى من نصالها وأشجع من أبطالها. و كانت أقواله للسامع مع مقام أفعالها حتى تظن الفريقين قد تقاتلا والسلاحين قد تواصلا”.
وفي العصر الحديث كانت المقاومة للمستعمر الغاصب، وكانت التضحيات المتلاحقة التي زلزلت أقدامه وأجلته عن ترابنا العربي. ولقد كان الشعر من أهم أدوات إِجلاء ذلك الغاصب الأجنبي. يقول أحمد شوقي إِثر نكبة دمشق بالاحتلال الفرنسي:
وللأوطان في دم كل حر
يد سلفت ودين مستحق
ومن يسقى ويشرب بالمنايا
إِذا الأحرار لم يُسقوا ويَسقوا
ولا يبنى الممالك كالضحايا
ولا يدنى الحقوق ولا يُحِق
ففي القتلى لأجيال حياة
وفي الأسرى فدًى لهم وعتق
وللحرية الحمراء باب
بكل يد مضرّجة يُدَق
وهذا الشاعر الفلسطيني عبد الرحيم محمود الذي حمل سلاحه وروحه على كفه وهو يقول:
سأحمل روحي على راحتي
وألقي بها في مهاوي الردى
فإِما حياة تسر الصديق
وإِما ممات يغيظ العدى.
الحرب في يوميات الأدباء:
كتب الفيلسوف الفرنسي جان بول سارتر يومياته عندما كان مجندا في الجيش الفرنسي، ثم تم أسره، وكان رافضا للحرب أساسا، فجاءت يومياته لتعبّر عن موقفه الفكري. يقول في إحدى يومياته: “أنا لم أعد كما كنت، شخصيتي لم تتغير، ولكن وجودي تغيّر من وجود في العالم إلى وجود ـمن أجل الحرب”.
وعاش عميد الأدب العربي طه حسين مرحلة الحرب العالمية الأولى، وتزامنت بداية الحرب مع سفره إلى فرنسا ضمن البعثة الدراسية التي أوفدتها الجامعة المصرية في تلك السنة وأشار إلى هذه الحرب في كتابيه “الأيام” و”أديب”.
يقول طه حسين في مذكراته: “نسى نفسه ونسى الناس، ولكنه لم ينس باريس، ولم ينس الحرب التي تحول بينه وبين باريس، وكيف السبيل إلى نسيان الحرب وأنباؤها المروعة تصبحه وتمسيه كل يوم”.
وهناك في هذا المجال “يوميات معركة الجزائر” للجزائري مولود فرعون الذي شارك كمقاتل في حرب تحرير الجزائر في مواجهة المستعمر الفرنسي الاستيطاني، وراح يسجّل يومياته التي أنهاها عام 1962 قبل استشهاده بيوم واحد. وهذه اليوميات تكشف مساحات واسعة وغامضة من مجريات الحرب التي استخدمت فيها كل الأسلحة من ناحية الطرفين.
الحرب في الروايات:
وتظلّ الرواية هي المجال الأوسع لإعطاء أدب الحرب شرعية عالية، وهناك في الأدب العالمي رصيد وافر في ذلك الشأن، منذ رواية “صائد الغزلان” لجيمس فنيمور كوبروالتي التي تصوّر”حالة الحرب بين غزاة بيض ومواطنين من الهنود الحمر، وهي حرب من نمط خاص وترسم نمطا للبطل ومفاهيم البطولة خاصة بها”. وكذلك رواية “الحرب والسلام” للكاتب الروسي تولستوي، وأيضا رواية “الدون الهادئ” لميخائيل شولوخوف، وفي هذه الرواية يصف شولوخوف حالة البؤس والجوع والمرض والتذمر التي كان عليها جنود القيصرية في الحرب العالمية الأولى. ويتفوق الكتاب الروس عموما في المنتصف الأول من القرن العشرين في إبداع رواية الحرب، لما مرّت به روسيا من حروب ضارية. ولا يتوقف قطار رواية الحرب عند هؤلاء، بل يقدم العالم كله عبر روائييه نماذج كبيرة في أدب رواية الحرب، وتتميز هنا رواية “جسر على نهر درينا” لليوغوسلافي ايفو اندريتش.
وفي عالمنا العربي، تأتي روايات المصري محمد يوسف القعيد لترصد وتسجل وتتأمل وتحلل، وتدين كذلك كما في روايتيه “الحرب في بر مصر”، و”يحدث في مصر الآن” وكذلك الروائي جمال الغيطاني في رواية “أرض.. أرض”، ورواية “الرغيف” للكاتب اللبناني توفيق يوسف عواد التي استمدت متنها من أحداث الحرب العالمية الأولى وتأثيراتها على المنطقة العربية، وبذلك أصبحت أول رواية عربية عن الحرب العالمية الأولى. أيضا كتبت الروائية السورية غادة السمان مذكراتها التي وصفت فيها وقائع ومجريات الحرب الأهلية اللبنانية التي عايشتها تحت اسم “كوابيس بيروت”.
* إعلامية وناقدة