“الدنيا نيوز” – دانيا يوسف
إن التباعد الاجتماعي والحجر الصحي ليست بمفاهيم جديدة، فخلال العصور الوسطى عندما اجتاح وباء الطاعون والجدري القاتل أوروبا وآسيا لم يكن لدى الأطباء أدنى فكرة عن الفيروسات والبكتيريا، ولكنهم كانوا مدركين بفكرة العزل الصحي للمصابين للحد من انتشار المرض.
أول تطبيق رسمي للحجر الصحي قامت به جمهورية (راغوزا) التي تعرف الآن باسم مدينة (دوبروفنيك) الواقعة في جنوب كرواتيا. تقع جمهورية (راغوزا) على الساحل الأدرياتيكي وكان فيها ميناء يستقطب الأشخاص والبضائع من جميع أنحاء العالم، ولكن عندما تفشى الطاعون في القرن الرابع عشر في البلدان التي تقع على ساحل البحر الأبيض المتوسط والبلقان، أصدر مجلس الجمهورية قانوناً ينص على وضع التجار والبحارة والسلع القادمة من المناطق الموبوءة بالطاعون في غرف للحجر الصحي لمدة شهر، ففي حال لم تظهر أعراض المرض عليهم يسمح لهم بدخول المدينة. قامت المدينة بتخصيص هذه الجزر الثلاث: (مركان) و(بوبارا) و(سوبيتار) التي تقع على مسافة بعيدة من أسوار مدينة دوبروفنيك لكي يقضي القادمين للمدينة فترة الحجر الصحي فيها، ولكن لم تكن هذه الجزر مهيأة بشكل جيد للسكن البشري، فلم يكن هناك أسقف فوق رؤوسهم، أي أنها كانت لا تقل خطراً عن الطاعون ذاته، وعندما أدركت السلطات هذا الأمر قررت بناء عدد قليل من المنازل الخشبية.
بحلول منتصف القرن الخامس عشر، أصبحت مرافق الحجر الصحي هذه محاطة بأسوار مرتفعة مع وضع حراس لمنع المحجورين هناك من الفرار، كما تم وضع فيها حفار قبور وكهنة وحلاقين وأطباء لخدمة احتياجات المقيمين فيها.
في عام 1397، اعتمد المجلس الأكبر مرسوماً جديداً تم بموجبه تنظيم إجراءات الحجر الصحي، حيث قاموا بتعيين ثلاثة من مسؤولي الرعاية الصحية للإشراف على تنفيذ أحكام وقوانين الحجر الصحي، كما يُعاقب كل من يخالف القواعد بالسجن، كما تم إصدار قرار بحظر دخول البضائع إلى الجمهورية طوال فترة تفشي الوباء، ولكن قرار الإغلاق هذا تسبب بالتقليل من حركة التجار والبضائع داخل المدينة، مما انعكس سلباً على القطاع التجاري والذي كان مصدر دخل كبير للمدينة، ولكن ومع ذلك بقي القرار سارياً لحماية صحة المواطنين.
كانت فترة الحجر الصحي محددة بـ30 يوماً، ولكن تم تمديد فترة الحجر إلى 40 يوماً ومن هنا ظهر مصطلح ”الحجر الصحي“ –Quarantine المشتقة من كلمة أربعين– للمرة الأولى، يعتقد بعض العلماء أن الفترة قد ازدادت لأنهم رأوا أن فترة 30 يوماً غير كافية لاحتواء تفشي المرض، في حين يعتقد البعض الآخر أن الرقم 40 له دلالة وأهمية دينية، فعندما غمر الله الأرض كانت قد أمطرت لمدة 40 يوماً بلياليها، وبعد أن تعمد اليسوع ذهب إلى الصحراء وقضى هناك 40 يوماً في البرية دون طعام.
مهما كان السبب في زيادة مدة الحجر فقد أثبت مدى فعاليته في التعامل مع تفشي الطاعون، فوفقاً للتقديرات الحالية قد تصل فترة الإصابة بالطاعون الدبلي إلى 37 يوماً وينتهي الأمر بموت المصاب.
ولكن على الرغم من هذه الإجراءات الاحترازية التي طبقتها الجمهورية، فإنه في عام 1526 تفشى مرض الطاعون بداخلها وتسبب بشل حركة المدينة لمدة ستة أشهر، لذلك قامت الحكومة بنقل مركزها إلى مدينة (غروز) بسبب اعتبار مدينة (دوبروفنيك) منطقة موبوءة ولا تصلح للعيش، وبعد مرور ستة سنوات تم بناء مرافق كبيرة للحجر الصحي في (لوكروم) وهي جزيرة تبعد 600 متر عن دوبروفنيك، وفي عام 1590 تم البدء ببناء مرافق حجر أخرى في (بلوتشي) التي تبعد 2 كم من دوبروفنيك وأصبحت جاهزة في عام 1642.
كانت هذه المرافق تحتوي على 10 مبانٍ متعددة الطوابق ومزودة بأنظمة صرف صحي مع وجود حراس لحراستها، وكان يتم تهوية وتبخير ونقع جميع البضائع الداخلة للمدينة، ولكنهم لم يولوا اهتمام بالفئران والبراغيث التي تعتبر الناقل الرئيسي للمرض، وكان يُسمح فقط للبضائع غير المستخدمة بالدخول للمدينة في حين كان يتم تحويل البضائع المستخدمة كالملابس وأصحابها إلى مراكز الحجر الصحي، ومن الجدير بالذكر أنه بعد تطبيق إجراءات الحجر الصحي انخفضت نسبة الإصابة بمرض الطاعون بشكل كبير.