“الدنيا نيوز” – فاطمة صالح*
(1)
مَسَحتُ الغبارَ عن صورةٍ تسكُنني، منذ وَعيتُ على الدنيا، قبلَ نصفِ قرنٍ من محاولتي إسنادَها على ذلكَ الجدار..
الوجوهُ الثلاثة كانت تنطق.. مع أنّ جَسَدَيّ اثنينِ من أصحابها مَدفونانِ –منذ عِدّةِ عُقود – في بلادٍ بعيدة..
قد تكونُ هذهِ الصورةُ التي تسكنني، مَسحوبةً منذ عام /1947م/… في “استوديو ” من استوديوهات التصوير في “الروخاس ” إحدى المُدنِ التابعةِ لمحافظة ” بْوينوس آيرس “… العاصمة الأرجنتينية.. /ستوديو كورتي /…
هذه الصورةُ، تشبهُ – إلى حَدٍّ كبير – صورةَ طائرٍ، جَسَدُهُ أسوَد، وجَناحاهُ أبيضان..
كان عمرُ الشابةِ –آنذاك – ستةَ عشرَ عاماً.. وكان عمرُ أبيها الجالسِ على كرسيٍّ بينها وبين أمها، حوالي تسعة وخمسين عاماً… والأمّ في السادسة والخمسين…
الرجلُ يرتدي طقماً أسودَ، وقميصاً أبيض، مع كرافتّة منقطة… يمسِكُ بيدِهِ اليسرى أوراقاً.. أو، ربما دفتراً… يضعه على فخذه الأيسر… ينتعِلُ حذاءً أسودَ.. يُصالِبُ ساقيهِ عند الكاحِلَين…
ابنته تقفُ على يسارِه، واضعةً كَفها اليمنى على كتفهِ الأيسر… ترتدي فستاناً أبيضَ اللونِ، لهُ قبّةٌ مُغلقةٌ من الأمام، بزرٍّ لهُ سِلسِلةٌ معدنيةٌ رفيعةٌ مُزدَوِجة، تبدو كأنها عِقد، تربطُ الزرّ بالعُروةِ من الجانبِ الآخرِ لصَدرِ الفستان.. كُمّاهُ طويلانِ، ينتهي كلٌّ منهما بأسوارةٍ عريضة.. تظهرُ من تحتِ الكمِّ الأيسَرِ، ساعةُ يدٍ تحيطُ بمِعصَمِها… تنّورةُ الفستانِ واسعةٌ، تغطّي رُكبتيها، وتنزلُ تحتها بعِدّةِ سانتيمترات… ساقاها، شبه العاريتين، يغطّيهما، بشكلٍ شفّاف، جرابٌ من لونِ الجسم.. تنتهيانِ بقدَمَينِ تنتعِلانِ صَندَلاً مُغلَقاً من الأمام.. لكلِّ فردَةٍ لسانٌ من الجلدِ، يحيطُ بكعبِ القدَمِ من الخلف، ويُغلقانِ ببكلةٍ من المعدنِ، على الجانبين…
المرأةُ تقفُ على يمينِ زوجِها، تتأبّطُ ذراعَهُ اليُمنى… تلبسُ فستاناً طويلاً، أبيضَ اللونِ، مُقلّماً بخطوطٍ فاتحة، يرتفعُ عن الكاحِلِ عدّة سنتيمترات… تنتعِلُ حذاءً أسوَدَ، دونَ كعبٍ، وجراباً أسودَ، أيضاً.. كُمّا فستانِها طويلان، ينتهيانِ بأسوارةٍ رفيعة.. وقبّتهُ تخفي الصدرَ بشكلٍ كامل…
الثلاثةُ حاسِروّ الرؤوس.. المرأةُ ذات شعرٍ تظهرُ فيهِ بعضُ التجاعيدِ، تفرقهُ من منتصفِ رأسِها، وترفعهُ من الخلف.. والبنتُ ترخي شعرها الذي يشبه شعر أمها، على ظهرها، وفوق كتفيها.. غرّتها مرفوعةٌ عن جبينها عدة سنتيمترات لتزيد من جمال وجهها…
مُقدّمة رأس الرجل صَلعاء.. وبقية الشعر الذي يظهر على جانبيّ رأسِهِ تبدو بدون تجاعيد.. له شاربان يتصِلانِ بلِحيةٍ خفيفةِ الشعر،.. بشَرَةُ الرجل فاتحةٌ أكثر من بشرة زوجته وابنته، الحنطيّتين..
الكلُّ يحملُ مَشروعَ ابتسامة…
نهَضَ الرجلُ عن كرسيّهِ، وأخذَ يتكلّم :
-ما الذي تريدينَ معرفتَهُ، يا حَفيدتي الغالية..؟َ
-جَدّي.. جَدّيَ الغالي.. أولاً، أريدُ أن أمَتّعَ روحي بمُناداتِكَ “جَدّي “.. لأنني لم أقلْها لجَدٍّ حقيقيٍّ لي، أبداً..
-وثانياً، يا ابنةَ بنتي..؟!
-وثانياً، يا جَدي.. إنني أبحثُ عن الحقيقة، وأبدأ من مَعرِفةِ نفسي، وجذوري..
-هل تسمحينَ لي بالجلوسِ، قبل أن أبدأ..؟!
-تكلّم على راحَتِكَ، يا جَديَ الغالي.. لكن، باللهِ عليك، أخبِرني بكلِّ ما عَلِقَ في ذاكِرَتِك..
-حَسَناً.. اكتبي، أيتها الحفيدةُ العنيدة.. فأنتِ تشبهينني كثيراً..
***
قد يكونُ تاريخُ ميلادي، عام /1888م/.. وربما كنتُ أكبرَ من جَدّتِكِ بثلاثةِ أعوام..
أقول، ربما.. لأنهُ في ذلكَ الزمان، لم يكُنْ تسجيلُ المَواليدِ دقيقاً.. فقد كان الناسُ يُخفونَ أغلبَ مَواليدهم عن الحكومةِ العثمانية.. ناهيكِ عن أنّ المواليدَ كانوا يولَدونَ حيث يُداهِمُ المَخاضُ أمّهاتهم.. ربما في البرّية، أو في إحدى القرى التي هُجِّروا إليها، أو في أيّ مكان..
لكنني أعتقدُ أنني وُلِدتُ في قريتي نفسِها، التي وُلِدتِ أنتِ فيها، أيضاً، بعدَ حوالي خمسةٍ وستينَ عاماً..
كانتِ البلادُ تعيشُ حالةً من الفقرِ المُدقِع.. ومن مُلاحَقاتِ الدولةِ العثمانيةِ التي لا تنتهي.. ومنَ السّلبِ والنّهبِ وقِلّةِ الأمان، ما لايُمكِنُ لكم أنتمُ الأحفاد، أن تتصَوّروه..
كانَ هناكَ ” عِدْلٌ ” واحدٌ للقريةِ كلِّها.. ومِسَلّةٌ واحدة، أيضاً..
الموتُ، كان بالجُملة.. إمّا من الجوع، أو من المرَض، أو القتل، أو كلّ مايخطر على بالِكِ، أو لا يخطر..
أحياناً كان عَددُ الموتى في القرية، يتجاوزُ عَددَ الأحياء.. حتى أنّ الناسَ كانوا يحاوِلون تقطيعَ وقتِهم، حتى يطلعَ الفجرُ، ليدفنوا بقيّةَ مَوتاهم.. إمّا بالغِناء، العتابا، والمَواويلِ الحزينةِ، أو المُفرِحة.. أو بإلقاءِ النكَتِ على السامِعين.. أو باختراعِ ألعاب، وتسليات، تكفلُ لهم تحَمّلَ الوقتِ الثقيلِ، بأقَلِّ الخسائرِ المُمكِنة.. وفي الصباح، يحملون النعوشَ، ليدفنوها في قِمَمِ وسفوحِ الجبالِ القريبة..
انظري.. ما تزالُ بعضُ المَقابرِ حَيّةً، رغمَ زحفِ العمرانِ نحوها.. ”
(يتبع)