مكتبة القرويين .. ذاكرة التراث المكتوب في فاس نشر في : 2016
“الدنيا نيوز” – دانيا يوسف*
نشرت مجلة “فكر” في العام 2016 تحقيقاً مصوراً عن مكتبة القرويين في مدينة فاس المغربية تحت باب قصة مكان اوردت فيه انه إلى جانب المآثر التاريخية والمعمارية التي تؤثث مختلف الثنايا والأزقة الضيقة لمدينة فاس العريقة، فإن هذه الحاضرة تتوفر على تراث ونفائس أخرى، خاصة منها التراث المكتوب الذي يتضمن العديد من المخطوطات والوثائق النادرة في مكتبة القرويين.
وتشكل خزانة القرويين بمدينة فاس تراثًا معرفيًّا وحضاريًّا خصبًا، ووجهة علمية فريدة للباحثين العرب والأجانب، الذين يشدون إليها الرحال للنهل من علمها.
تخضع مكتبة القرويين إلى عملية ترميم، انطلقت منذ سنة 2012، بعد أن تضررت بعض المخطوطات الثمينة، التي تعود إلى القرن السابع بفعل الرطوبة.
وقد تم تجميع هذه المخطوطات والنفائس منذ عدة قرون بمكتبة القرويين، التي تعد من بين أقدم المكتبات في العالم باعتبار أن تاريخ تأسيسها يعود إلى القرن الثامن للهجرة؛ حيث كانت في البداية مكتبة صغيرة أنشئت إلى جانب جامع القرويين، لمساندة مهمته في التدريس إلى أن قام السلطان أبو عنان المريني بالاعتناء بها رسميًّا عام 750 هـ/1349 م، ووضع لها قانونًا للقراءة والمطالعة والنسخ، وزودها بكتب نفيسة في مختلف العلوم والفنون.
وقد أضاف إليها السعديون خلال القرن الـ16 الميلادي كتبًا كثيرة، نقلوها من الخزانة المرينية بالمدينة نفسها، وأغنوها بمخطوطات ووثائق فريدة فتجاوزت محتوياتها 32 ألف مجلد سنة 1613. كما حافظت المكتبة الفريدة بفضل نظامها المحكم على رصيدها العلمي، الذي يضم فيضًا من المؤلفات والمخطوطات لكبار علماء المغرب الإسلامي كابن طفيل وابن رشد الذي اشتهر بمؤلفاته الجمة في العهد الذهبي ليعقوب المنصور. وزينت قبة المكتبة بزخارف جصية وخشبية منقوشة على الطراز الفني الأصيل، تفصح عن مدى تأثر الفن المعماري المغربي بالإبداع الأندلسي الرفيع، الذي يزهر في بيوت ومساجد المغرب الأقصى بتاريخ مجيد. كما تتمتع المكتبة بفضاءات ساحرة مزهوة بالزخرفة الإسلامية الصوفية والفسيفساء ما يعطي للمكان قيمة تراثية عالية.
وتضم المكتبة (الخزانة) التي يقترن اسمها بجامع القرويين، بوصفها ظلت لقرون عديدة تحتل جناحًا داخل هذا الجامع الذي يعد من بين أقدم الجوامع في العالم العربي والإسلامي، نفائس ثمينة من المخطوطات ورصيدًا من الوثائق النادرة التي لا يوجد بعضها إلا بين رفوف هذه الخزانة العريقة.
وتمثل خزانة القرويين، التي عرفت على مر القرون العديد من عمليات الترميم والتوسيع والإصلاح، وجهة علمية لا محيد عنها للطلبة والباحثين والأكاديميين، سواء من المغرب أو من الخارج، والذين يفدون إليها لنهل العلوم والمعرفة، نظرًا لما تضمه من مخطوطات بعضها فريد من نوعه.
وتتوفر خزانة القرويين على حوالي 21 ألف عنوان مطبوع و4 آلاف مخطوطة مفهرسة بطريقة إلكترونية علمية وحديثة، وهي فهرسة دقيقة وشاملة تهدف بالأساس إلى تسهيل عملية البحث للطلبة والباحثين الذين يقصدون الخزانة لإنجاز أبحاثهم ودراساتهم.
ومن بين الذخائر النادرة من المخطوطات التي توجد في رفوف خزانة القرويين، مصحف كريم نادر يعود إلى نهاية القرن الثاني الهجري وبداية القرن الثالث مكتوب بماء الذهب على رق الغزال بخط كوفي قديم. ولا توجد أي نسخة مطابقة لهذا المصحف الكريم في أي خزانة أخرى سواء داخل المغرب أو خارجه.
وتكمن قيمة الخزانة تكمن في توفرها على أقدم مخطوط ويعود إلى القرن الثاني الهجري وهو كتاب “الصيغ” لابي إسحاق ابن إبراهيم الفزاري”.
كما تتوفر الخزانة على نسخة فريدة من كتاب “العبر” لابن خلدون حبسها شخصيًّا في خزانة القرويين، حين كان يقيم ويدرس بمدينة فاس، وميزة هذه النسخة أنها موقعة بخط يده. وقد تم مؤخرًا اختيار هذا المخطوط من طرف منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة (اليونسكو) ضمن التراث العالمي الإنساني من خلال برنامج “ذاكرة العالم”.
وبالإضافة إلى هذه الدرر والنفائس من المخطوطات التي لا تزال شاهدة على غنى وتفرد الموروث الحضاري لمدينة فاس، تتوفر الخزانة على مخطوط نادر عبارة عن أرجوزة طبية كتبها ابن طفيل، وهي النسخة الوحيدة المعروفة في العالم لهذا المفكر والفيلسوف والطبيب.
وهذه الأرجوزة الطبية التي كتبت بطريقة رجزية، يتطرق فيها ابن طفيل من خلال أبيات شعرية إلى مختلف الأمراض والأسقام التي كانت معروفة في عصره وأعراضها وطرق ووسائل علاجها.
وهناك أيضًا مخطوط لكتاب ابن رشد “البيان والتحصيل” وهي نسخة سلطانية فريدة وجميلة جدًّا مكتوبة على رق الغزال ومذهبة، وتم اعتمادها في تحقيق هذا الكتاب الذي طبع في عدة مجلدات.
ومن بين نفائس خزانة القرويين إنجيل مكتوب باللغة العربية يعود إلى القرن 12 الميلادي، بالإضافة إلى مجموعة من المطبوعات الحجرية القيمة والنادرة التي يقدر عددها بحوالي 600 مطبوع حجري.
وإضافة إلى هذه المخطوطات والمطبوعات الحجرية النفيسة، تتوفر خزانة القرويين على مطبوعات تقدر بحوالي 24 ألف عنوان؛ منها مطبوعات نادرة يصل عمر بعضها إلى حوالي 150 سنة، ومن ثم فقد أضحت في حكم المخطوط باعتبارها غير موجودة في مكتبات أخرى، ولا يمكن للباحث أن يعثر عليها إلا داخل خزانة القرويين، ولذلك ارتأى المشرفون على الخزانة أن تكون الإعارة داخلية، لتفادي فقدان أو ضياع هذه المطبوعات النفيسة.
كما تتوفر الخزانة على عدد لا بأس به مما يطلق عليه اسم “الخروم”، وهي مخطوطات ووثائق نادرة، ولكنها غير مكتملة أو متلاشية أو تنقصها بعض الورقات.
وقد عمد سلاطين المغرب والأمراء والعلماء والعائلات المعروفة بالعلم والفكر والثقافة على مر العصور إلى إثراء محتويات هذه الخزانة، وتزويدها برصيد من الكتب والمؤلفات لكبار علماء ومفكري المغرب والعالم الإسلامي، وذلك من خلال عملية الوقف والتحبيس بهدف إغناء رفوفها وتمكين الطلاب والعلماء والباحثين من نفائس تهم مختلف الحقول المعرفية في الطب والفلسفة واللغة وغيرها.
ومن أجل الحفاظ على هذه المخطوطات القيمة عمد الخبراء إلى تخزينها بطريقة “الميكروفيلم” مما يسهل على الباحثين والطلبة والأكاديميين عملية البحث وكذلك صيانة هذه النفائس من التلف والضياع، كما أن الخزانة مجهزة بأحدث الوسائل التكنولوجية للحفاظ على تلك المخطوطات والوثائق النادرة من الرطوبة والحرائق والسرقة.
—————————-
*رئيسة القسم الثقافي في “الدنيا نيوز”