كان ذلك عام 399 قبل الميلاد ،انه اعظم الفلاسفة اليونانيين الذين عرفهم العالم وظلت فلسفته تنشر شذاها في العالم. وكان هذا الفيلسوف محبا للجمال ومحبا لقيم العدل واستطاع بذكائه الحاد أن يقضي على السفسطة التي سادت عصره. هذه السفسطة التي تقلب الحق باطلا والباطل حقا بادعاء أن كل الأمور نسبية. فليس هناك فضيلة مطلقة.
فالسرقة مثلا إن كانت قد أضرت المسروق فهي مفيدة للسارق. وإذا قال أحد من الناس إن الجو حار وقال آخر إن الجو بارد فكلاهما في رأي السوفسطائيين على حق لأن كل واحد منهما شعر بما أحس به ،وكان من الممكن أن تفسد هذه الفلسفة الحياة، لولا أن تصدى لها الفيلسوف العظيم سقراط، وأْعاد الحق إلى نصابه ليعرف الناس أن الحق حق وأن الباطل باطل وأن الحقيقة لا يختلف حولها إثنان.
استطاع الفيلسوف العظيم أن يخمد أفكار السوفسطائيين. ويضع نهاية لتشويههم الحقيقة عن طريق منهجه بأن يلقي على سامعه الأسئلة التي تقوده إلى الحقيقة والتي من خلالها يظن سامعه أنه اهتدى إلى هذه الحقيقة بنفسه.
وكانت مآثر هذا الفيلسوف العظيم أنه، كما يقولون عنه، أنزل الفلسفة من السماء إلى الأرض بمعنى أن جعل الفلسفة تهتم بمشاكل الإنسان وهمومه، بأن يعرف الإنسان نفسه لا أن ينطلق ببحث
في ما وراء الوجود. وقال كلمته الشهيرة التي كانت محفورة على معبد دلفي:
(اعرف نفسك)
كان دائما يقول:
‘أني أسير في أعقاب الحق وأتلمس آثارة تلمس كلب الصيد للفريسة. أنا لا اعرف غير شيء واحد هو أنني لا أعرف شيئا.
أي أنه كان منتهى أمله أن يتعلم وأن العلم هو ضالته، وأن على كل إنسان سوى أن يكون العلم ضالته.
كان سقراط ضخم الجثة غليظ الشفتين أفطس الأنف جاحظ العينين، ومتزوجا من زوجة متسلطة اسمها xantipy. وقد ترك مهنته كنقاش وراج يجوب شوارع أثينا ينشر الفلسفة ويبشر بها دون أن يلتفت لمهنته.
وكان لا بد لمثل هذا الانسان الذي يلتف حوله شباب أثينا من كل الطبقات الغنية والفقيرة للاستفادة من حكمته والاستما ع إليه، وهو يتحدث عن الإنسان وحكمة الحياة، وأنه لا ينبغي الخوف من الموت لأن الموت إما عدم، وبالتالي لن يكون ثمة شعور به، وإما أن الأنسان سيرى في العالم الآخر الذين تركوا بصمات في هذه الحياة ورحلوا. ومن هنا يسعد الانسان بهذا العالم الذي لا نعرف عنه شيئا وفي كلا الحالتين لم يعد الموت مخيفا. واستمع الشباب إليه وهو يتحدث عن الله ووحدانيته، كما استمع الشباب إليه وهو يسخر من ديمقراطية أثينا.
كل ذلك دفع البعض للحقد عليه حسدا من قدرته المذهلة في النقاش والوصول بسامعه إلى أبواب الحقيقة.
وحقد عليه السوفسطائيون لأنه هدم مذهبهم في الشك في كل الأمور، حتى تتقدم الحقيقة المطلقة. ولم يكن غريبا بعد ذلك أن يجابه بالاتهامات التي تزج به في أعماق السجن، تمهيدا لمحاكمته والتخلص من حياته بالموت.
وكان أن وجهت إليه تهمتان:
التهمة الأولى أنه لا يعبد آلهة أثينا انما
يعبد آلهة من عنده.
التهمة الثانية أنه يفسد الشباب وقد وجه إليه هذا الاتهام أحد تجار الجلود ويدعى أنتيس(Anytus) لأنه أفسد ابنه الذي حرضه على ترك مهنة والده والاتجاه لدراسة الفلسفة، وقبض على سقراط ليقدم إلى المحاكمة.
ونرى من خلال ما كتبه أفلاطون عن لسان استاذه سقراط، كيف دافع عن نفسه في محاكمة ظالمة ومن خلال دفاع سقراط عن نفسه نرى كيف انكر الاتهام الذي وجه إليه، وكيف عاتب الذين جاءوا ليحكموا عليه بتهمة أنه ينكر الإله بجانب إفساده للشباب. ومع أنه فند كل التهم التي وجهت إليه بأسلوب جذاب ومنطق عميق، إلا أنه قد حكم عليه بأن يموت بالسم.
وقال لهم سقراط وكأنه يودع الحياة ويودع أصدقاءه بعد أن قرر أن ينفذ الحكم ولا يهرب من سجنه وكان في إمكانه ذلك، فقد كان من بين تلاميذه تلاميذ أغنياء يمكنهم أن يفيدوا استاذهم عن طريق رشوة الحراس وتوفير الوسيلة لهرب سقراط، ولكنه رفض ذلك وقال لهم كلماته التي عاشت:
لقد أزفت ساعة الرحيل وسينصرف كلا منا إلى سبيله فأنا إلى الموت وأنتم إلى الحياة، والله وحده عليم بأيهما خير.
ونقرأ في كتاب سقراط كما وصف ذلك أفلاطون في (فيدون) وهو كتاب يعد من كبرى ملاحم العالم، فيقول أن تلاميذ سقراط احتشدوا حول أستاذهم المحبوب، فدعا أحدهم إليه وجعل يمر بيده على شعره وهو يشرح آراءه في الحياة والموت وخلود الروح. فالموت نسيان خالد حلو لا يفسده إضطهاد أو ظلم أو خيبة أو ألم أو حزن أو أنه باب نطرقه فنمضي من الأرض الى السماء. إنه المدخل إلى قصر الله وهناك أيها الاصحاب لا يقتل إنسان من أجل عقائده، فابتهجوا إذن واستبشروا ولا تأسفوا على فراقي، وقولوا حين تودعونني عند القبر إنكم إنما دفنتم جسدي لا روحي.
توشك الشمس أن تغرب، فيدخل السجان وفي يده السم ويقول:
بربك يا سقراط لا تحقد علي فأنت تعلم أن غيري يحمل إثم موتك ولا أحمله أنا.
يقول ذلك ويمد يده بالكأس إلى سقراط ويجهش بالبكاء، وهو عائد من عنده.
لم يستطع أحدنا أن يحبس دمعه، فانحلت شؤوننا رغما عنا عدا سقراط فقد ظل رابط الجأش يقول لصحبه:
ما هذا السخف لقد صرفت النساء تفاديا لمثل هذا المشهد. السكينة إذن ودعوني أمت في هدوء.
فلما سمعنا هذا استجبنا وكفكفنا الدمع. فلما شرب سقراط كأس الشوكران ( السم) استلقى على سريره كما أمره السجان، وسري السم تدريجيا من قدمه صوب قلبه فاهتز هزة عنيفة، وجمدت عيناه.
عرضوا الحياة عليه وهي رخيصة
فأبى وآثر أن يموت نبيلا.
إن الشجاعة في القلوب كثيرة
ورأيت شجعان العقول قليلا.