ماذا يحصل في “ديكتاتورية” مطار بيروت ؟ وأي غباء يجعل الدولة تحصر ناقلها الجوي بشركة واحدة؟
خاص – “اخبار الدنيا”
بات ثابتاً ومؤكداً ومعلوماً للقاصي والداني ان اسعار تذاكر السفر التي تعتمدها “شركة طيران الشرق الاوسط” (ميدل ايست ايرلاينز) هي الاغلى والاكثر ارتفاعا على مستوى شركات الطيران في العالم، مع ان ذلك ينعكس بشكل سلبي كبير على الاقتصاد اللبناني، ويكبد المسافرين من لبنان وإليه مبالغ باهظة.
وهناك إحصاءات عديدة أُجريت في هذا الصدد، ومنها إحصاءات اجرتها المديرية العامة للطيران المدني خلال فترات ماضية، وتضمنت مقارنة أسعار تذاكر السفر بين أسعار طيران الشرق الأوسط وأسعار شركة الطيران البريطانية مثلاً. وتبين ان كل أسعار التذاكر إلى الدول المجاورة والصادرة عن الخطوط البريطانية أقل من سعر تذاكر ال”ميدل إيست”، وأشارت الى فرق كبير في الأسعار بين عُمان وتل أبيب ولارنكا وان سببه المنافسة التي تتعرّض لها الخطوط البريطانية في كل من هذه الدول، فتدفعها إلى خفض سعرها خلافاً لما يحصل في لبنان حيث تزيد أسعارها على أسعار ميدل إيست لأن الخيارات المتاحة أمام المسافرين إلى لندن محصورة بـ” طيران الشرق الاوسط” و”الخطوط الجوية البريطانية”.
المقارنة ذاتها كانت أجريت بين ال”ميدل إيست” و”الخطوط الجوية الفرنسية” على خطّ بيروت ــ باريس. الميدل إيست تبيع التذكرة الواحدة بقيمة 1409 دولارات، والخطوط الفرنسية تبيعها بقيمة 1270 دولارا. أما الشركة الفرنسية، فهي تبيع تذكرة السفر على خط باريس ــ لارنكا بقيمة 922 دولاراً، وعلى خطّ باريس ــ عُمان بقيمة 669 دولاراً وعلى خطّ باريس ــ تلأبيب بقيمة 420 دولاراً.
في هذه المقارنة بين أسعار لبنان وباقي الدول التي تقع في محيطه، اي ان المسافة بين العواصم الاوروبية وبينها متقاربة الى حد كبير، يتبين ان هناك فرقا كبيرا في الأسعار يصل إلى أكثر من الضعف أحياناً، وهو لا يقلّ عن 27.5%، بالحد الادنى، لكنه يكشف أن العيب في لبنان يكمن في “الحصرية” التي تدفع الشركات إلى التنافس على السعر الأعلى لا التنافس على السعر الأدنى، لان الخيارات امام المسافرين محدودة، وذلك لأن شركتي الخطوط الجوية الفرنسية والخطوط البريطانية لديهما اتفاقات ثنائية مع ميدل إيست لنقل الركاب وتبادل هذه المنفعة في ما بينهما، وبالتالي فإن أي راكب يرغب في السفر إلى أي من هاتين الدولتين ليس أمامه سوى خيار شراء تذكرة سفر باهظة من الشركات المذكورة.
والسبب في ذلك ليس خفياً بل هو واضح وجلي وظاهر للعيان، وهو احتكار ال“ميدل إيست” لامتياز الناقل اللبناني الجوي الوحيد ، وهذا ما يجعلها في موقع “المتغطرس” الذي يفرض قراراته وتدابيره واجراءاته وحتى أسعاره الباهظة فرضاً إلزامياً على المسافرين، علماً ان تخفيض الاسعار يخدم الاقتصادالوطني ويساهم في إرساء المنافسة الحقيقية مع شركات الطيران الاخرى، كما يسهم في التخفيف عن كاهل اللبنانيين في ظل الأزمات التي يعيشونها، فالأسعار خارج لبنان منخفضة بسبب التنافس بين شركات الطيران، ولبنان بلد عضو في اتفاقية “حرية الأجواء المفتوحة”، فلماذا لا تفتح الأجواء لشركات أخرى، وخاصة الشركات منخفضة الأسعار التي تنطلق في استراتيجيتها من منافستها الشركات مرتفعة الأسعار ، لا سيما وأن السفر لم يعد للرفاهية إنما وسيلة نقل ومواصلات.
ولماذا تتخذ الحكومة اللبنانية اصلاً قراراً بتخصيص شركة “طيران الشرق الاوسط” دون سواها بالاستحواذ على ترخيص النقل الجوي اللبناني؟! في الواقع ان ذلك هو واحد من حزمة الاسئلة الصعبة، التي لا تجد لها جواباً حتى لدى كبار المسؤولين والوزراء المعنيين في لبنان، وهي أسئلة تقود بمعظمها الى نتيجة واحدة، وهي تعكس حجم التخبط والعشوائية، وعدم الرؤية والضياع لدى هؤلاء المسؤولين القُصَّر ، والتي تُرجِمت نتيجتها الطبيعية في الانهيار الذي حصل في البلد على كافة المستويات الاقتصادية والمالية والاجتماعية والاخلاقية وسواها.
وفي هذا السياق حاول موقع “أخبار الدنيا” الاستفسار من وزير النقل علي حمية، باعتباره المسؤول المعني عن المرافقاللبنانية الجوية والبحرية والبرية، حول رأيه في موضوع حصرية ال“ميدل إيست” للنقل الجوي، لكنه لم يرد .
نعود الى ال“ميدل إيست” وألغازها وأحاجيها الكثيرة المفتوحة في كل الاتجاهات والتي لا يُعرف حتى الآن مالكهاالحقيقي في ظل “الغموض المتذاكي” الذي يعتمده دائماً رئيس مجلس إدارتها ومديرها العام محمد الحوت الذي يتعمد غالباً ذر الرماد في الآذان وفي العيون، عندما يُوحي تارة بأنها شركة يملكها مصرف لبنان المركزي، وتارة يقول انها شركة للدولة اللبنانية ، فيما يُسرِّب أحياناً بأنها شركة مساهمة وانه يملك فيها اكتر من سواه! وبناء لهذه المعطيات فإنه يتصرف فيها على طريقة “الديكتاتور” الاوحد فيفرض قوانينها الداخلية، كما اسعار التذاكر فيها وفق ما يرتأي، من دون الرجوع لأحد، ويوظِّف من يشاء، ووفق معايير بعيدة عن الاخلاق والقيم في معظم الاحيان، وبمعزل عن معايير الكفاءة والجدارة دائماً ، ويبيع ويشتري مع من يحتاجهم من المسؤولين لتسهيل اموره، ويتعسف في ممارسة سلطاته الداخلية أولاً، ثم يتسلل الى مرافق المطار الاخرى، والتي لا علاقة للشركة بها، فيفرض الشركات الوهمية التي “يخترعها” على مناقصات يسعى جاهداً لأن يفرغها من طبيعتها ويجعلها مناقصات شكلية، ثم تفوز بها إحدى هذه الشركات التي يتبين لاحقاً انها ملكه الشخصي واذا كان له من شركاء فيها فإنهم من الذين يدورون بفلكه، او انهم أسماء اشخاص ممن لا يعرفون ما الذي يجري اصلاً وتقدم لهم موازنات خاسرة سنوياً او سوى ذلك من البدع التي لم تتخيلها ولا تحوكها “العقول النظيفة”.
ومن خلال هذه “الخزعبلات” التي تمارس في المطار منذ نحو ثلاثة عقود تمكن مدير ال“ميدل ايست” من توسيع “امبراطوريته” وقضم صلاحيات كل المديريات المعنية، والسيطرة عليها، حتى بات يصح القول ان “الحوت” هو المطار، وهوالآمر الناهي في كل بقعة منه وهو الذي يستحوذ ب“شطارته” على كل الصفقات التي تحصل فيه وما أكثرها، وهو الذي يعرقل ابداً، ويحول دائما، دون السماح لأي شركة تجارية “نظيفة” من دخول المطار او المشاركة في المناقصات المتعلقة بالاستثمار في اي مرفق من مرافقه، سواء كان معنياً بها او غير معني كما حصل أخيرا مع مناقصة تلزيم مطاعم ومقاهي و”كافيتيريات” المطار والتي كنا أشرنا الى تفاصيلها في مقال سابق.
واذا اردنا تسليط الضوء على “نشاطات الحوت” فإنها لن تختصَر بمقال ولا بمجلدات، لكننا في هذه العجالة نذكِّر بأن اللبنانيين المغتربين والمنتشرين في أصقاع الدنيا والذين باتوا اليوم يشكلون العمود الفقري الحقيقي والاوحد لما تبقى من اقتصاد لبناني، هم اكثر من يدفع ثمن حصرية ال“ميدل ايست” لأسطول النقل اللبناني، وهم الذين يشكون دائما، ويعلونا لصرخة في وجوه الجميع في هذا الصدد على صفحات التواصل، ويطالبون المعنيين بالإسراع في معالجة الاسعار الباهظة لتذاكر لشركة الوطنية الوحيدة ، واسسوا لهذه الغاية صفحة flight or fight في سياق حملة لخفض أسعار تذاكر السفر، ومن دون ادنى شك ان اي مقاربة عقلانية من قبل المسؤولين ستفضي الى فتح الأجواء اللبنانية امام شركات لبنانية اخرى منافسة، وهذا ما سينعكس حتماً تحريكاً للاقتصاد الوطني ويرفده بايرادات جديدة في كافة القطاعات التجارية والاستثمارية والانتاجية والصناعية والسياحية وازدهاراً في كل الميادين.
فمتى تبلغ المنظومة الحاكمة في لبنان سن الرشد؟ وتخرج من شرانق المصالح الخاصة لاعضائها ومسؤوليها، ومن قيود مشاريعهم الخاصة وصفقاتهم الدنيئة ، الى رحاب التفكير على مستوى الوطن وشعبه ؟ ذلك هو السؤال الاول…والأخير .