مأساة العرب … فلسفياً حوار مع أفلاطون وأرسطو

بقلم: توفيق شومان *

 

ليس من السهل ، التفاؤل بقدرة طبقة الحكام العرب على إخراج الشعوب العربية من كارثتها المستفحلة منذ سنوات وعقود ، فالإنهيارات المتعاقبة والمتشعبة بين انهيارات اقتصادية وسياسية وأمنية وأخلاقية وثقافية ، يخفض منسوب الآمال بالإنعتاق من واقع الحال ، ذلك أن مجموعة العوامل المؤدية إلى البلاء المقيم ، لا يبدو أنها في طريق الإنزياح ، في ظل مراوحتها على نفسها ، وفي ظل ” عقيدة الإصرار ” التي تتشبث بها الطبقات الحاكمة ، وتحول دون رؤيتها لفواحش أدائها في السلطة والحكم ، فتذهب إلى انتهاج آليات العمل ومنظومة الأفكار اللتين سبقتا الإنهيارات والمآسي ، وكأنما لا كوارث حدثت ولا فظائع وقعت .
ـ كيف وصلنا إلى هنا ؟ هذا السؤال يحيل كوارث العرب إلى أول السياسة ، وأول السياسة كان في بلاد الإغريق ، وبالتحديد مع الثلاثي الذهبي : سقراط ـ أفلاطون ـ أرسطو ، وعلى هذا الثلاثي طرحت أوائل أسئلة السياسة عبر هذا الحوار الإفتراضي ، بادئا مع ” المعلم الأول ” :
ـ مرة أخرى أيها المعلم أرسطو : لماذا وصلنا إلى هنا ؟
ـ أرسطو : لا يبدو في بلادكم العربية أنهم قرؤوا ما قلته في كتابي ” السياسيات ” : ” الفكر يشيخ كما يشيخ الجسد “.
ـ هل توافق أيها الكبير أفلاطون على ما قاله تلميذك أرسطو ؟
ـ أفلاطون : بالرغم من أن أرسطو كان أكثر النقاد قسوة لكتابي ” الجمهورية ” ، ولكتابي الآخر ” القوانين ” ، إلا أني أوافقه الرأي ، وقد قلت في ” القوانين ” : إن التجديد غالبا ما تفرضه المأساة ” ، ولكن كما علمت أن الأعيان والحكام في بلادكم ، لم يأخذوا بالتجديد والإقلاع عن القديم ، مع أن مآسيكم تشبه التراجيدية الإغريقية التي تحدث عنها شعراؤنا وأدباؤنا .

ـ فعلا هي مآسي أعادت العرب أجمعين إلى ما كتبتموه وخلدتموه ، ولكن ما السبب يا أيها المعلم أرسطو ؟
ـ أرسطو : الواضح في بلادكم ” أن الشطر الأكبر من القوانين يميل نحو الأغنياء ، و مع الوقت تكونت عناصر الشر حقيقي ، ومع الشر تكونت الخيرات الكاذبة ، ومع الإثنين ، طمع الأغنياء أكثر وزاد نهمهم أكثر “.
ـ منطق فلسفي أيها المعلم ، ومثل هذا المنطق قال به فيلسوف جاء بعدك بمئات السنين ، هو جان جاك روسو ، إذ يقول في كتابه ” مقالة في العلوم والفنون ” : ” ينبغي أن يكون شغل الحكومات الشاغل الوقاية من حصول تفاوت مفرط بين الثروات ، ليس بإنتزاع الثروات من اصحابها ، ولكن بمنع وسائل تكديسها ” ، ما رأيك أيها العظيم أفلاطون ؟
ـ لم أسمع بفيلسوفك ذاك ، لكني سبقته قرونا بقولي : ” إن جعل الثروة أساس الجدارة هو إثم فظيع ، وعلى أساس هذا الإثم تنقسم المدينة الى قسمين : غني وفقير ، ومع هذا الإنقسام تسود البغضاء والكراهية بين سكان المدينة “.
ـ بالفعل … بالفعل هذا ما حدث عندنا ، ولعلي مضطر أن استعين مرة ثانية بجان جاك روسو في معرض نبذه لما يسميه البعض ” فضيلة الثروة ” فهو يقول : ” أشد المخاطر على الدولة حين يُقاس الإجلال بالأموال وتُباع الفضائل بالدراهم ” ، للأسف هذا ما نعاني منه … ماذا تضيف إلى ما سمعته ؟
ـ افلاطون : كل الفلاسفة الذين جاؤوا بعدي ، إما أخذوا من أفكاري أو أنها تركت تأثيراتها عليهم رغم نقدهم لها ، ففي كتاب ” الجمهورية ” قلت نقلا عن سقراط : ” حين يحتكر الأغنياء الحكم ، لا يعود للفقير حظ أو نصيب ، فالخير والفضيلة في هذا النوع من الحكم هما في جمع الثروة ، وهؤلاء الأغنياء يكتشفون طرقا خاصة للإنفاق ، فينبذون الشرائع ويدوسون على الأحكام ، هم وأزواجهم ، وهؤلاء أيضا يغدو لهم ثلاثة أعمال : الأول : الحكم بقوة السلاح ، الثاني : الإفراط في جمع الثروة ، الثالث : مراقبة كل واحد منهم للآخر بعين الغيرة والريبة “.
ـ بالضبط هذا ما يجري عندنا …
ـ أفلاطون : سأزيدك أكثر وأكثر … طبقة الحكام التي ذكرتها قبل قليل ، قلت عنها في ” الجمهورية ” نقلا عن أستاذي سقراط : ” قد يختلف أعيان المدينة ويتنازعون ، ولكن هذا النزاع ينتهي بالتفاهم المتبادل ، والإتفاق على اقتسام الأراضي والبيوت واستعباد أصحابها السالفين ، وتحويلهم إلى طبقة سفلى ، عبيدا وأرقاء ، للخدمة في الحرب والدفاع عن سلامة أسيادهم ” .
ـ كأنك حي بيننا يا صاحب ” الجمهورية ” … شهادتك تصدع الرؤوس والعقول … لن أسألك أيها المعلم أرسطو … لك القول والتعقيب …
ـ أرسطو : أوافق على ما قاله أفلاطون ، وأزيد عليه ، أن ما يحدث عندكم وفي بلادكم ، أدى بلا شك إلى تلاشي الطبقة الوسطى ، وكما قلت في ” السياسيات ” : ” إن اتساع الطبقة الوسطى يجعل نظام الحكم ثابتا ، بل يتحول إلى أكثر الأنظمة السياسية رسوخا وثباتا ، بينما تضطرب الأنظمة السياسية حين تكون الطبقة الوسطى ضعيفة أو شيئا لا يُعتد به قطعا “.
ـ هذا واقع حالنا يا معلم … ولكن طبقة الحكام في بلادنا ، منذ فترة ، تكثر الوعود وتطلق سراح القول بخروج قريب مما نحن عليه ؟
ـ أرسطو : أشك بذلك ، لأن في داخل كل بلد من بلاد العرب مجموعة من الحكام ، لكل واحد منهم لغته ، وأبجديته ، وتفسيره للقوانين ، وتفسيره أيضا للمفردات والكلمات ، وأنا حين انتقدت ما قاله أفلاطون عن مشاعية النساء والأملاك ، توقفت عند مفردة ” الجميع ” وقلت : ” إن لفظة جميع ملتبسة ، ذلك أن الكل سيقول هذا إبني او هذه إمرأتي ، وكذلك عن الأملاك وعن كل ما يقع في حوزة البشر ، وأما في الواقع ، فإن الذين يجعلون النساء والأبناء والأملاك مشاعا ، فهم لا يقولون إن النساء والأبناء والأملاك يخصونهم ، بل يقولون كلهم لهم ، ولكن لا كل بمفرده ، وهنا يتضح أن لفظة الجميع تعمية لما فيها من لبس ومن إدخال للكلام في أقيسة مغالطة “.
ـ فظيع هذا التفسير يا معلم ، وقد استحضرت ذاكرتي قولا مشابها للفيلسوف الصيني كونفوشيوس ، فقد قال : ” إذا لم تقع الأسماء على مسمياتها وقع الخلط في اللغة ، وإذا وقع الخلط في اللغة ، وقع الخلط في المعنى ، وإذا وقع الخلط في المعنى وقع الخلط في النظام ، وإذا تعددت المعاني فسدت المعاني ، وإذا فسدت المعاني فسد النظام ، ولو غدوت حاكما لعملت على إعادة كل مسمى إلى إسمه الحقيقي ” ، … هل أنت من أصحاب هذا الرأي يا أستاذ المعلم الأول ؟
ـ أفلاطون : كيف لا أكون من أصحاب هذا الرأي وأنا القائل في كتاب ” القوانين ” : ” أصلح الدول التي يتكلم فيها المواطنون كلمات ذات معنى واحد ” .
ـ عندنا يا سادة ، لا يعرفون المعنى الواحد ، ولا اللغة الواحدة ، ولا اللسان الواحد ، ومع ذلك يغدقون بالوعود ويغرقون الناس بها …
ـ أفلاطون : أنا كتبت عن أمثال مآسيكم وفظائعكم وقلت : ” إنهم يتلاعبون بالكلام بأسلوب من أساليب المآسي ، فيوردونه في صورة الجد والرصانة ، وهم يهزؤن بنا كأننا أطفال لديهم “.
ـ بعد كل هذا الذي قلتماه ، هل يعني أن كل دولة من دول العرب أصبحت دولة فاشلة … أصحيح هذا المصطلح أيها المعلم؟
ـ أرسطو : أكثر من فاشلة ، فحين يطاح بالقوانين والشرائع ، تشيع الفوضى ، ومن يقرأ كتابي ” السياسيات لا بد أن يتوقف عند قولي : ” يحاول الزعماء والطامعون في السيادة والزعامة ، تضليل الشعب ، فيسلطوه على الشرائع ، ويمعنون في مدالسة الشعب وتضليله ، طمعا في الفوز بإختيار الشعب لهم ” ، أي يحرضونه على الخروج عن القوانين ، فتسود الدهماء ويعم الإضطراب ، وعلى ما أظن هذا الذي يجري عندكم .
ـ هذا بالضبط ما يجري ، وهو أمر يدفع إلى اقتباس مصطلح ” الحرية السلبية ” ، العائد لفيلسوف ظهر بعدك بأكثر من ألف عام ، وهو هيغل الألماني حيث يقول : ” هناك من يضع القوانين ولا يلتزم بها ، لأنها تحد من إرادته ، وأمام هذه الإرادة الجامحة والمتفلتة يتم تدمير كل النظم والمؤسسات ، وعلى أنقاض هذا التدمير ولأجل تحقيق الإرادة يبرز مصطلح الإقتناع ، ولكن من بإمكانه أن يفسر الإقتناع ” ؟ هل لديك تفسير يا معلم ؟
ـ أرسطو : حين تكون السياسة على هذا النحو ” تصبح غايتها التحكم والتجبر والقهر ” .
ـ نكمل من مظاهر الدولة الفاشلة ؟
ـ أرسطو : إن أول مظاهر الدولة الفاشلة ، يكمن في ” التهاون مع الصغائر ، فحينذاك تنحرف القوانين المرعية عن أصلها انحرافا بليغا ، ولا يبلغ هذا الإنحراف مبلغه ، إلا عند الإستخفاف بالأمور الطفيفة “.
ـ في كتابيك ” الجمهورية و ” القوانين ” تحدثت يا أستاذ الفلاسفة عن أنواع الأنظمة السياسية وأشكالها ، نقدتها ونقضتها كلها ما عدا ” جمهوريتك ” بطبيعة الحال ، هل من مقارنة بين ” دولنا ” الفاشلة كما وصفها المعلم وبين الدول المنقودة والمنقوضة؟
ـ أفلاطون : يحلو لي الرجوع إلى ما قاله أرسطو عن تضليل الشعب ، وتسليطه على القوانين ، فالسياسيون الذي يسلكون هذا السبيل ، يهدفون إلى إبقاء الشعب داخل أسوار الفوضى ، و هؤلاء ” السياسيون الذين لا يمنحون الشعب سوى القلاع والأسوار ، هم مثل من يروض الخيول الجامحة ، فيفشل بترويضها ثم يتركها أكثر شراسة مما كانت عليه ” ، وهذا ما يمكن اعتباره قمة الفشل والخطر معا ، ذلك أن دفع الناس إلى استخدام الفوضى تجاه الخصم ، سرعان ما ينقلب باستخدام الفوضى ذاتها ضد ولي الأمر .
ـ هذه مشاهدنا العربية اليومية يا كبير الفلاسفة ، واسمح لي الآن أن اتوجه مرة أخرى إلى المعلم أرسطو لأسأله أيضا عن أسباب انحلال الدول ؟
ـ أرسطو : أنا ذكرت العديد من الأسباب ، وأهمها ما ينشأ من خلافات بين الطبقة الحاكمة ، ” ففي سركوزا ، حين اختلف الحكام استعان كل واحد منهم بقسم من الأهالي ، فأحدثوا الفتنة في الدولة كلها ، وفي هستيئا ، اختلفوا على الأرزاق ، وذهب كل من المختلفين إلى الإستعانة بقسم من الناس ، وقد يقع الخلاف بين الحكام بسبب ما يعتبره أحدهم إهانة موجهة ضده ” ، وكما رأيت استجلبت الخصومات الشرور الكبرى ، فالخصومات بين طبقة الحكم أصل تلك الشرور وكما قلت أنا مستعينا بالمثل اليوناني الشهير : ” بدء الشيء نصف جملته “.
ـ لو تنظر أيها المعلم إلى حالنا ، حيث أشكال الخصومات بين الطبقة الحاكمة لا تنتهي ويتناسل بعضها من بعض ، ومنذ سنوات أدخل الحكام عندنا أصنافا جديدة إلى خصوماتهم ، أخطرها الشتم والسباب ، ومع ذلك يقولون إنهم زعماء الشعب ويدافعون عن الشعب…
ـ أرسطو : منذ أكثر من ألف سنة قلت بجملة واحدة وبمعنى واحد لا لبس فيه : ” أكثر الطغاة تدرجوا من زعامة الشعب الى حكم الطغيان “.
ـ طالما انعطفت بكلامك إلى هذا المنعطف ، هل تتكرم بالإجابة على سؤال ما وظيفة الدولة وما وظيفة حكام الدولة ؟
ـ أرسطو : سألخص ذلك بإيجاز شديد وأقول إن وظيفة الدولة تقوم على هذه العناصر : ” ـ توفير الأمن ـ السهر على ضروريات المعاش ـ العناية بالأسواق ـ تنظيم التجارة ـ ترميم المنازل ـ تعبيد الطرقات ـ صيانة حدود العلاقة بين الناس ـ حماية ممتلكات الناس ـ رعاية النساء ـ العناية بالأطفال ـ التعليم ـ وأهم وظائف الدولة هي السلطة القضائية “.
ـ كل ذلك غير موجود عندنا ، وهذا ما يطرح سؤالا خطيرا حول وجوب طاعة الحكام إذا لم يقوموا بوظائفهم ، وهنا بالضبط سأستعين بفيلسوف لم يعش في زمانكم ، هو الإنكليزي توماس هوبز ، حيث يقول : ” إن طاعة الحكام واجبة حين يحافظون على أمن الناس وأموالهم ، وحين لا يتوافر ذلك ، تصبح الطاعة غير واجبة ” ، ماذا تقول يا معلم المعلم ؟
ـ أفلاطون : واضح انكم تفتقدون العدالة ، وواضح أن طبقة الحكام عندكم لا تعرف من السياسة شيئا ، ” وما السياسة إلا فن يجب ان يتوخى مصلحة المحكوم دون الحُكم ، مثل الطبيب يتوخى مصلحة المريض ، والسائس يتوخى مصلحة الخيول وقبطان السفينة يتوخى مصلحة ركاب السفينة ” .
ـ أتدري أيها الكبير ماذا حل بالسفن العربية ؟
ـ أفلاطون : طبعا أدري … ولكن لك ” أن تتخيل أن من يقود السفينة هم أهل الثروة والجاه وليس أهل الخبرة والجدارة ” ، ألا تغرق السفينة ؟
ـ بالفعل … هي تغرق …
ـ أفلاطون : هذا ما يجري عندكم …. السفن العربية تغرق لأن من يقود تلك السفن ليسوا من أهل الخبرة وليسوا من أهل الجدارة .
………………………………………….

*كاتب، إعلامي وباحث