“قيلولة” اللوحة التي رسمها الفنان الهولندي ڤنسنت ڤان غوخ من داخل المصح النفسي
“الدنيا نيوز” – دانيا يوسف
رسم فان غوخ هذه اللوحة بعد أن اُدخل إحدى المصحّات النفسية في سان ريمي. وعلى الرغم من جوّ اللوحة الهادئ، إلا أنها تشعّ بذلك التوتّر الذي يطبع أعمال فان غوخ عادة.
اللوحة هي واحدة من ثلاثين لوحة اختار الفنّان أن يستنسخها عن رسّامين آخرين. كان فان غوخ وهو في المصحّة يتأمّل ماضيه فلا يجد فيه سوى القليل من السعادة. وكان يحاول جاهدا البحث عن مواضيع للرسم توفّر عليه مشقّة الخروج إلى الطبيعة في ذروة فصل الشتاء القارس.
وقد وجد أخيرا بعض السلوى في أعمال رسّاميه المفضّلين الذين قرّر أن يعيد رسم بعض لوحاتهم. وأكثر اللوحات التي رسمها كانت لـ جان فرانسوا ميليه الذي كان فان غوخ معجبا به ولطالما اعتبره فنّانا حديثا أكثر من مانيه.
في هذه اللوحة ينسج فان غوخ على منوال ميليه في إحدى لوحاته، فيرسم زوجين نائمين في احد الحقول وقت القيلولة. زوج الأحذية المخلوعة والمنجلان الموضوعان جنبا إلى جنب هي تذكير بوقت الراحة بعد يوم حافل بالجهد والتعب. تنظر إلى جوّ اللوحة فتتذكّر بيئة الفلاحين وما يرتبط بها من حرارة الشمس اللاهبة والعمل البدني المضني والإحساس بالإرهاق والتعب.
اللوحة تتضمّن أيضا مجموعة من الثنائيات: الزوجان “أي الرجل والمرأة”، الحذاءان، كومتا القشّ والمنجلان. المنظر هادئ إجمالا ويخلو من أيّ توتّر. والسماء الزرقاء تعمّق الإحساس بهذه الحالة من الصفاء والسكينة.
الرسّام وظّف هنا الألوان الزرقاء والبنفسجية والبرتقالية والصفراء. كما استخدم ضربات فرشاة فضفاضة في المقدّمة كي يكرّس المزاج المسترخي في هذه اللوحة الغنائية.
وعندما تتأمّل التفاصيل الهادئة في الصورة، لا يمكن أن يخطر ببالك أن من رسمها سيقدم على قتل نفسه بعد أشهر قليلة من إتمامها.
جان فرانسوا ميليه كان معروفا برسم مناظر الطبيعة التي تصوّر الريف الفرنسي في سبعينات القرن التاسع عشر. وخلافا لـ فان جوخ، حقّق ميليه نجاحا ملحوظا خلال مسيرته الفنّية. وكان محظوظا بما فيه الكفاية عندما رأى الناس والجمهور يعترفون بموهبته ويقدّرون أعماله وهو ما يزال على قيد الحياة.
خلفية جان فرانسوا ميليه الاجتماعية المتواضعة كان لها تأثير كبير على طبيعة مواضيعه. كان كثيرا ما يقول: “لقد ولدت فلاحا وسأموت فلاحا”. لكن بعد أن أصاب بعض النجاح تغيّرت أفكاره وأصبح يقدّر مزايا وايجابيات الحياة المرفّهة والمريحة. وقد أودع في لوحاته تعاطفه الكبير مع الفلاحين عندما صوّرهم وهم يجهدون في زراعة الأرض ورعايتها لتأمين لقمة عيشهم.
فان غوخ، هو الآخر، كان يحترم الطبقات الكادحة ويتعاطف معها. لوحاته التي رسمها في هولندا كانت تصوّر فلاحين ونسّاجين وغيرهم من فئات المجتمع البسيطة. وكان يبدو في أحسن حالاته عندما يشاركهم حياتهم وتجاربهم. كان، مثل ميليه، يراهم أناسا نبلاء حقّاً وعَكَس هذا الانطباع في رسوماته.
الجدير بالذكر أن فان جوخ درس أعمال ميليه في وقت مبكّر. وقد ساعدته دراسته تلك على معرفة أساليب التعامل مع الطلاء والألوان. ولا أدلّ على افتتانه بـ ميليه من قوله في إحدى رسائله إلى شقيقه ثيو: “ميليه هو الأب والمرشد لجميع الرسّامين الشباب”. غير أن تأثير ميليه عليه بدأ يتناقص عندما أصبح فان غوخ يخالط رموز مجتمع الفنّ الحديث في باريس مثل غوغان وبيسارو وتولوز لوتريك وغيرهم. لكن انجذابه للريف لم يتلاشَ تماما. فلوحاته عن المحاصيل والحقول المشمسة في آرل تبدو دافئة وذات حضور كبير.
اللوحات التي استنسخها فان غوخ لآخرين حرص فيها على أن لا يتمسّك بالتفاصيل، بل غيّر فيها وبدّل في محاولة لأن يترجمها من منظوره هو من خلال التكنيك والألوان.
وقد فعل نفس الشيء تقريبا وهو يرسم هذه اللوحة، على الرغم من انه بقي وفيّا للتوليف الأصلي وحافظ على تفاصيل الحياة الساكنة في المقدّمة.
في احدى رسائله، يخبر شقيقه عن أمر هذه الصور التي استنسخها قائلا: “لقد بدأت في رسمها عن غير قصد. وأنا الآن ارتجل الألوان وأعيد تشكيل ما أراه. الشخص الذي يعزف موسيقى بيتهوفن يضيف إليها رؤيته وتفسيره وإحساسه الشخصي. وهذا ما افعله. لقد تعلّمت من هذه التجربة أشياء. كما أنها تمنحني بعض الراحة والسلوان. الفرشاة تتحرّك الآن بين أصابعي مثلما تتحرّك الريشة على آلة الكمان. وهذا مبعث سرور عظيم لي”.
عمل فان غوخ في مستهلّ حياته واعظا بأحد الأديرة. ولما اتضحت موهبته في الرسم بدأ برسم الفقراء الذين كانوا يأتون إلى الدير لسماع خطبه.
وعلى الرغم من انه لم يبدأ الرسم إلا في آخر عشر سنوات من حياته، إلا أنه كان غزير الإنتاج وترك ما لا يقلّ عن سبعمائة لوحة، عدا عن مئات الرسومات والاسكتشات.
كان فان غوخ إنسانا يائسا وذا مزاج متقلّب وعنيف دفعه في النهاية لأن يقدم على الانتحار. ورغم انه توفّي وعمره لا يتجاوز السابعة والثلاثين، إلا انه أصبح بعد وفاته احد النجوم الكبار في سماء الفنّ الحديث.