لبنان يشهد موجة هجرة جماعية غير مسبوقة.. ليس تفصيلاً أن يدفعك أهلك وأحبابك للرحيل
بثت قناة “الحرة” تقريراً تحت عنوان: “لبنانيون يستعيدون أحلامهم بعد الهجرة: “عدنا إلى الرسم والرقص”، كشفت فيه ان لبنان يشهد حالياً بداية ثالث أكبر موجة هجرة جماعية عرفها في تاريخه، وفق ما تقدره الإحصاءات وتصفه مراكز البحوث والرصد، وذلك إثر واحدة من أسوأ الأزمات الاقتصادية التي شهدها العالم، وفقاً للبنك الدولي. هجرة تفتت المجتمع اللبناني وفقده فئات عمرية وكوادر بشرية وطاقات علمية، تعد الخسارة الأكبر للبلاد على المدى الطويل.
واعتبرت ان لبنانيين في المقابل، ينظرون اليوم إلى الهجرة باعتبارها سبيلا وحيداً للنجاة، لا يتردد من خاضه في التعبير عن كونه شعور حقيقي اختبره بمجرد الانتقال من البلاد، شعور بأنه نجا، من مكان يفتقد للاستقرار إلى حد يستحيل معه الاستمرار، ولا يتردد من يستعد له بالسعي بكل ما أوتي من قدرة، للرحيل بحثاً عن الحد الأدنى من مقومات الحياة الطبيعية.وتركت الأزمة التي يعيشها لبنان تغييرات جذرية على أسلوب حياة اللبنانيين وطرق تفكيرهم، محيلة أكثر من 75% منهم للعيش على خط الفقر، فيما يعاني أكثر من نصفهم من البطالة بعدما وصل الغلاء في أسعار السلع والخدمات إلى حد بات معه العمل غير مجدٍ مادياً لكون المصاريف تتخطى المداخيل بفوارق هائلة، أثرت على قدرات اللبنانيين ومستوى إنتاجيتهم، والأبرز من كل ذلك السلامة النفسية من تأثير الضغوطات، والقدرة على التفكير بالغد، في بلد يسجل نسب إصابة بالقلق والاكتئاب والرغبة بالانتحار تصنف من الأعلى عالمياً.
مهاجرون طرداً
هند الملاح، 30 عاماً، انتقلت حديثاً من لبنان للعيش في بلجيكا، كان الرسم هوايتها التي عشقتها وأبدعت بها خلال مراحل الدراسة، قبل أن تبعدها الضغوط عنها لتتوقف عن الرسم كليا لنحو 3 سنوات قبل رحيلها، تقول “كنت قد وصلت إلى مرحلة في بيروت قبل سفري أسأل نفسي عن الفائدة من بقائي على قيد الحياة أصلاً، ما الفرق إن رحلت اليوم عن الحياة؟ لا شيء سيتغير”.
وتضيف: “كنت عاجزة حتى عن الجلوس دون التفكير بالهواجس، في المقابل انعدم تفكيري بالغد، همومي تحولت إلى تأمين البنزين للتنقل، والكهرباء للعمل، والمياه للاستخدام في المنزل، انشغلت بأمور تافهة ليست من مسؤوليتي، لكنها تستنزف الإنسان نهائياً إلى حد الاستسلام.” معتبرة أن الطريقة التي رحلت فيها جعلتها تشعر وكأنها “مطرودة من البلاد”.
تعبير “الطرد” يتكرر مع نغم شرف، كاتبة صحفية، تتهيأ أيضاً للرحيل عن البلاد متجهة إلى مصر، حيث وجد زوجها عملا مناسباً له.
تقسم نغم هجرة اللبنانيين إلى قسمين مبنيين على الفترة الزمنية، ما قبل الأزمة أو ما بعدها، “فالذين رحلوا قبل وقوع الأزمة رحلوا بخيارهم، لأنهم فهموا أنه يجب الرحيل لبناء مستقبل في الخارج، أما الذين يرحلون بعد الأزمة مثلي، مطرودون يرحلون من أجل النجاة فقط”، وفق تعبيرها.
وأضافت: “كل سعيي اليوم عيش أيام طبيعية فقط، ولو أن هذا القرار سيكلفني خسارة عائلتي وأصدقائي وثقافتي المكانية، ولكن المعاناة التي نتعرض لها في البلد أكبر من أن تحتمل من أجل أي حسنات أخرى”.
والغريب بالنسبة إلى نغم “أن الناس عادة ما تسافر سعياً وراء وظيفة أو بداعي العمل أو الدراسة أو الهجرة نهائياً، أما أنا بكل صراحة أسافر بداعي البحث عن منزل تتوفر فيه الكهرباء والمياه والإنترنت دون انقطاع، جل طموحي اليوم في الخارج أن أعيش يوماً طبيعياً واحداً ولست أبالغ في ذلك، لم أفكر حتى بالخروج من المنزل أو التعرف على البلد، كل ما أريده يوماً طبيعياً دون عراقيل”.
“كنت معتادة على روتين معين خلقته لنفسي خلال وجودي في بيروت طيلة 10 سنوات، حتى هذه المساحة المؤلفة من شوارع معينة وأماكن مميزة ومع أصحاب محددين لم تعد كلها موجودة، إما بسبب الانفجار الذي أطاح بالشوارع، أو بسبب عجز أصحاب الأماكن فيها عن الاستمرار بمصالحهم، أو بسبب رحيل أصدقائنا بطرق ولأسباب متعددة، حتى الأحاديث التي كانت تدور بيننا لم تعد موجودة، يندر أن يجري الحديث اليوم عن موضوع لا يتعلق بالأزمة وتأثيراتها ويومياتها، حتى مفهوم التسلية أو الترفيه ما عاد موجوداً”.
عاطلون عن الأحلام
“بات من الصعب في لبنان أن تتنبأ بما هو قادم بعد نصف ساعة، فما بالك بأحلام المستقبل؟” تقول نغم، وتضيف “وأنا اتحدث الآن جهازي المحمول سينطفئ بعد 40 دقيقة، ولم تأت الكهرباء بعد، ولا أعلم ما سأفعله بعدها لمتابعة عملي، كل العوائق التي تحيط بحياتي الاجتماعية والمهنية لا علاقة لي بها ولست من يقرر فيها، مما يعني أنه لا يمكنني التخلص منها بل عليّ بذل مزيد من الجهد والوقت والتكاليف المادية من أجل الالتفاف عليها”.
وتتابع: “نعيش في لبنان صدمة نفسية متكررة ومستمرة منذ 3 سنوات، انفجرت الآن، ولكنني اليوم لا أستطيع الجلوس والقول لنفسي أنت اختبرت انهيارا اقتصاديا، أو شهدت انفجاراً، أو عايشت موتاً جماعياً بسبب كورونا، أو ُحبستي أشهراً في المنزل غير قادرة على الخروج، وذلك لأنني بحاجة إلى حالة طبيعية لم تعد موجودة في لبنان لمراجعة كل ما مر علينا واستيعابه، الصدمات تتراكم وليس هناك وقت لتنفيسها والتعامل معها، ما يصل بي إلى مرحلة تسمى burn out حيث افقد كل طاقتي على الإنتاج واتحول إلى الخمول وعدم الاكتراث”.
تحولت بيروت إلى مدينة الضغوط، وفق ما تصفها يارا دبس، التي انتقلت للعيش في الولايات المتحدة مع بداية الأزمة الاقتصادية، “من السكن إلى العمل والراتب وتكاليف التعليم ومتطلبات الحياة، ضاع في بيروت كل ما كنت أحلم بالقيام به، كل أحلامي كانت مجمدة في هذه المدينة، كل شيء غير متاح فيها وكل خيار يكلف اتخاذه غالياً، في بيروت الظروف تفرض عليك كل قراراتك، أما هنا وعلى الرغم من صعوبة العودة إلى الصفر، إلا أنه لديك مروحة واسعة من الخيارات وبإمكانك تحديد اتجاهاتك والسير بها دون عرقلة ناتجة عن ظروف خارجية طارئة، بإمكانك التخطيط لليوم التالي والفترة المقبلة بسبب الاستقرار المتاح على كافة الأصعدة”.
ركوب الدراجة الهوائية كان واحداً من نشاطات يارا المفضلة في طفولتها، “كبرت ولطالما كنت أعبر عن حلمي بأن أقود دراجة في تنقلاتي داخل المدينة، كذلك كنت مولعة بالرقص. انتقلت من بلدتي الجنوبية للعيش في بيروت، دخلت في الدورة الروتينية للحياة في المدينة والعمل فيها والعيش ضمن منظومتها الاجتماعية، وانتهت مع تلك المرحلة إمكانية قيامي بأي من النشاطات التي كنت أحبها وأحلم بها، فلا طرقات بيروت تناسب الدراجات الهوائية ولا معاييرها تناسب الرقص”.
عودة إلى الرسم والرقص
ونشرت هند قبل أيام عدة صورة لها وهي ترسم في بلجيكا، ونالت تشجيعا كبيرا من أصدقائها الذين يعرفون قصتها مع الرسم، هذه الصورة كانت تعني بالنسبة لهم أن “هند بخير منذ مدة طويلة” وفق ما عبروا لها، تشير هند إلى أن أول ما فعلته حين وصلت إلى بروكسل كان البحث عن متجر لبيع معدات الرسم، “اشتريتها وبدأت محاولاتي بالعودة إلى هوايتي التي أحب، وبالفعل بعد محاولات عدة لإعادة تمرين يدي وبعد التواصل مع مدربتي في لبنان، استعدت مهاراتي وشعرت برغبة عارمة في حمل أغراضي والتوجه إلى المنتزه من أجل الرسم”.
و”كانت المرة الأولى التي أختبر فيها هذا الشعور بالانفصال عن المحيط والانسجام الكلي مع الرسم، شعرت بخفة رهيبة لا خوف فيها من أي شيء محيط ولا أفكار تؤرق عزلتي”، وفق هند التي شعرت بتقدم سريع لم تكن تحلم به في لبنان، “كنت أشاهد أعمالا (فنية) عبر مواقع التواصل الاجتماعي واعتبر الوصول إليها حلماً، اليوم وصلت إليها بالفعل وطورت قدراتي أكثر بمجرد أن عدت أؤمن بها وأتاحت لي الظروف أن أتدرب وأنتج”.
اليوم تخطط هند لتغيير مجال تخصصها الدراسي، “اتجه نحو الرسم والفنون أكثر، هذا كان حلمي منذ تخرجت من المدرسة وفرضت على نفسي مجالاً يمكن العمل به والعيش منه في لبنان، أشعر اليوم بأنني تلك الفتاة في المدرسة التي تريد هذه المرة اختيار اختصاص تحبه، حتى لو كان “لا يطعم خبزاً” كما قلت حينها”.
من جهتها كان أول خيار اتخذته يارا بعد انقضاء فترة الحجر الصحي هو شراء دراجة هوائية، “اتنقل بها واتعرف من خلالها على المنطقة وشوارعها، وتحولت هوايتي إلى منفس وحيد لي في حياتي الجديدة. أما الخيار الثاني الذي اتخذته فكان أن عدت للتفكير بجدية بتعلم الرقص وبدأت بالسعي للأمر الذي لطالما كان أمنية أريد تحقيقها”.
وتضيف يارا “حين أفكر اليوم بحلم الرقص، أعود لمرحلة طفولتي، عندما كنت يارا فقط دون أي تدخل اجتماعي بوعيي وتفكيري، وقبل أي أمر واقع فرضته الظروف والبلاد، قبل أن تتشبع شخصيتي بالمعايير الاجتماعية للنجاح والفشل. حين كنت طفلة خام، هذا ما كنت أريد القيام به، وهذا ما استعدته هنا بعد الهجرة”.
كثيرة هي الأحلام المؤجلة التي عادت لتراود يارا في أميركا، “واحدة منها الدراسة في جامعة محترمة، إذ عدت اليوم بعد سنوات من العمل، للتفكير مجدداً بدراستي ومجال تخصصي، خاصة أنني في بيروت لم اختبر فعليا الحياة الجامعية، أجبرتني الظروف على دخول سوق العمل قبل الجامعة، التي تحولت إلى أولوية ثانية بعد العمل، إلى حد أنني كنت اتفاجأ بمواعيد امتحانات لم أكن اعلم بها بسبب انشغالي في العمل، اليوم أستعيد التفكير بأولويات لم يكن لدي الوقت والرفاهية الكافية للتفكير بها في بيروت، حيث كنت قد نسيت من أنا وفقدت هويتي وخسرت اهتماماتي وهواياتي وأحلامي، وحتى اليوم لا زلت أعاني من آثار فقداني لشغفي وإنتاجيتي، محاولة اكتشاف نفسي من جديد”.
حياة دون عراقيل
بالنسبة إلى يارا بات الوطن “هو المكان الذي أشعر فيه بالأمان، فقط لا غير، إلى هذا الحد باتت معاييرنا متراجعة، أحب الولايات المتحدة لأنني اشعر بالأمان فيها، بإمكاني التنقل وقتما اشاء وإلى أي مكان أريده دون أن يمنعني أحد”.
من جهتها هند ترى أنها “في بروكسل اليوم قادرة على التخطيط لسنة مقبلة أو 3 أو حتى 10، الوضع مستقر هنا وكل ما عليك أن تقوم بما يطلبه الأمر لتنجح، كل ما عليك أن تحلم بروتين ثابت وأن تنفذه، في المقابل أضعت 7 سنوات من حياتي في لبنان بزحمة السير بين صيدا وبيروت، وبشكل يومي، أصل إلى عملي مستنزفة متوترة، فيما كل ما هو مطلوب منك هنا اختيار وسيلة التنقل العامة وفقاً للوقت الذي تحتاجه للوصول دون ازدحام أو عرقلة ليومك”.
أما نغم التي تودع لبنان قبل سفرها فتقول “ما أريده اليوم في حياتي أن أؤسس لعائلة وأن أخطط بدقة لمستقبلها، وواجبي تجاه هذه العائلة أن لا أجبرها على عيش الصراعات التي سبق أن عشناها هنا، بل من واجبي أن أؤمن لهم مخرجاً منها، لكي يكون لديهم خيارات، فإنجاب أولاد في لبنان كمن يستدين طيلة عمره ويورث الدين لأولاده بعد موته، أن لا أريد لأولادي إرث هذه البلاد، بل مكاناً آمنا لا يقتلون فيه بانفجار، لا أريد حمل هذا الذنب وأن أظلمهم، لذلك أشعر بواجب تجاه نفسي أن اخرج من هنا أولا، لإنقاذ عائلتي المستقبلية ثانياً”.
إنسان لأول مرة
وتتشارك هند ويارا تجربة مشابهة رغم بعد المسافات بينهم، في بروكسل تقول هند “كانت أول مرة أشعر فيها بأنني انسان منذ 30 سنة، حين تقدمت بطلب الحصول على لقاح كوفيد-19، وصلتني الموافقة بعد 10 دقائق جرى خلالها الاعتذار مني على تبليغي بموعد سريع لتلقي اللقاح في اليوم الثاني، لم نكن لنحلم بهذا التعامل في بيروت حيث طوابير الانتظار والتسويف والمحسوبيات للحصول على أبسط الخدمات والحقوق الإنسانية بتلقي علاج أو لقاح.
وتضيف “أشعر بنقمة اليوم على لبنان، نقمة سببها ضياع 30 عاماً من عمري كان يمكنني فيها أن أحقق معظم أحلامي لو كنت في دولة أخرى. أشعر بالحقد على من وضعنا في هذا الموقف وكان سبباً في معاناتنا، وأحزن جداً على شباب نعرفهم ينتحرون بعد انعدام السبل أمامهم”.
أما في الولايات المتحدة، تقول يارا ” كدت انهار حين كنت أجري فحوصا صحية دورية، ودخلت طبيبة تسألني “هل أنت بخير، هل أنت مكتئبة؟”، لم استطع حبس دموعي في تلك اللحظة، شعرت بأن السؤال مسني جداً، كانت المرة الأولى في حياتي التي يسألني أحد غريب هذا السؤال، شعرت بأنني (إنسان)، لا أحد في لبنان قد يسألني إذا ما كنت مكتئبة أم لا، لا نسأل بعض بهذه الطريقة، دائما ما يأتي السؤال، “كيفك.. منيح”؟
وتضيف “يكفيني أن أول ورقة إرشادية تلقيتها في السفارة الأميركية كانت حول حقوقي وكيفية حمايتها وحماية نفسي خاصة لناحية التعرض للعنف أو الاستغلال، أشعر أنني أصبت بـ “صدمة حضارية”، أسأل نفسي أحيانا هل أستحق هذه النوعية من الحياة”؟
شعور بالذنب
لا تخفي هند شعورها بالذنب أحيانا تجاه ما تحصل عليه من نوعية حياة في بروكسل، مقابل ما يعيشه أهلها وأصدقاؤها في لبنان، “وصلت إلى مرحلة أنني لا أتجرأ على نشر صورة لما آكله او كيف أعيش هنا، على الرغم من انني كنت أعمل بمجهود أكبر وأنتج مالاً أكثر ولكن هنا بوجود كل الخدمات التي تحتاجها وبتكاليف معقولة يصبح تأمين المال هاجساً ثانوياً”.
أما يارا فقد كانت مع بداية وصولها إلى الولايات المتحدة، تقارن كل الأسعار بما هي عليه في لبنان لاسيما بعد الانهيار الكبير للعملة، الذي بات معه الدولار الواحد مدخول عائلة في اليوم في لبنان، “كل شيء كنت أحضره أفكر بسعر صرفه في لبنان وأشعر بالذنب أن بإمكاني إرساله إلى أهلي في لبنان”.
وتضيف يارا “هناك مشهد لا يمكنني نسيانه، مع بداية استفحال الأزمة في لبنان حين ارتفعت أسعار اللحوم وحرمت منها الناس في لبنان، كنت حينها قد سافرت، وخلال تناولي وجبة غداء في أحد المطاعم وصلتني قطعة لحم، حين نظرت إليها تذكرت فورا الوضع في لبنان وانهرت بالبكاء، شعرت بالذنب وأنا أفكر بأن أهلي قد لا يتمكنون من شرائها بعد الآن بسبب ارتفاع ثمنها”.
وفي المقابل تؤكد نغم أنها تشعر بالفرح حين تتابع أصدقاءها الذين رحلوا إلى الخارج وتتابع يومياتهم وكيف يمضون أوقاتهم، وتقول “هؤلاء أصدقاؤنا الذين عشنا معهم وسمعنا أحلامهم ونراهم اليوم في الخارج يحققون أجزاء منها، ولكن لا شعوريا تحصل المقارنة مع نفسك ومع ما تعيشه، ترى أنهم يتمكنون من استعادة أحلامهم التي هي حق لهم، نحن محرومون منها، إلى أن نرحل”.
كوابيس لبنانية
وتلفت يارا في حديثها إلى أن لبنان يلاحقها في نومها، “تراودني كوابيس لبنانية بامتياز، الأسبوع الماضي كنت وزوجي قد خططنا لرحلة في الطبيعة، في الليلة نفسها راودني كابوس بأنني فجأة أصبحت في بيروت وتم تسكير الطرقات وسمعت أصوات الرصاص وعمت فوضى تامة في الشوارع وعجزت عن اللحاق بزوجي في رحلتنا. كابوس آخر راودني مع اقتراب عيد ميلادي، إذ عجزت أيضا عن القيام بما كنت قد خططت له بسبب انقطاعي من مادة البنزين، استيقظت مصدومة من أنه حتى خلال النوم أحلام بيروت وأحداثها تلاحقني، بعدما كانت جزءاً حقيقياً من يومياتي”.
“حين تأتي من بلاد راكمت فيها تجربة وبعمر متقدم يختلف الأمر عن وصولك إلى بلاد جديدة مراهقاً أو طفلاً” وفقا ليارا التي تضيف “كل ذاكرتي المكانية وذاكرتي الجماعية والمجتمعية في لبنان، وتظل مرتبطة به لوقت طويل، ومن الصعب جدا التخلص منه. أرى عائلات وأطفال هنا وأفكر فوراً بالأطفال في لبنان، أفكر بنفسي طفلة وكيف عشنا طفولتنا وسط الحروب والفساد والاغتيالات، أسأل نفسي دائما “كيف يشعر الأشخاص الذين عاشوا حياةً طبيعية دون صدمات نفسية كالتي عشناها؟ كيف يمكننا عيش حياة طبيعية في مكان ننتمي له ونحبه وتستمر حياتنا فيه ومن حولك من تحب”؟
من جهتها، ترى نغم أنه بإمكانها اليوم، أكثر من أي وقت مضى، أن تفهم أصدقاءها السوريين الذين أتوا من سوريا إلى لبنان هاربين من الحرب والأزمة، “أفهم لماذا كنت أشعر دائما أنهم مهزوزين، وأنهم ليسوا بخير، في حينها لم نكن لنفهم، لكننا اليوم نعيش هذه التجربة، وحتى لو عادت الحياة الطبيعية لم أعد اليوم الشخص نفسه، لأعود واسترجع حياتي السابقة، وإنما مضطرة لبناء حياة جديدة على أساس الشخص الذي أصبحت عليه”.
وتضيف: “لا أظن أن من اختبر بيروت خلال السنوات الأخيرة يمكن أن يخرج منها ويقول أنا استعدت نفسي، هناك كثير من الأمور التي تغيرت في داخلنا، لا يمكن تجاوزها بسهولة، بل سنخوض مرحلة إعادة تشكيل لأنفسنا على أساس كل ما اختبرناه وعلى أساس المكان الذي سنكون فيه، ولكن لن أكون نفسي الذي كنت عليها عام 2018”.
رحيل بلا ألم
وتعتقد نغم أنه “في مكان ما لكي تنجز وتنجو عليك الرحيل من هنا وأن تنسى كل شيء وتقتنع أنه لا مكان لك بعد الآن، ولا شيء لتفعله وإلا سنمضي كل حياتنا بالشكوى، لذلك نتخلى عن كل ما يربطنا بهذه البلاد، حتى فكرة الصداقات الجديدة نهرب منها، كي نوفر على أنفسنا مزيدا من الألم عند الرحيل، توقفنا حتى عن شراء حاجيات منزلية، نؤجلها لما بعد الرحيل، تزوجت وانتقلت إلى منزلي الزوجي ولم أحضر أي قطعة أو أثاث للمنزل، فكل ما يعني استثماراً في هذا البلد توقفنا قسراً عنه، نؤجل كل ذلك إلى ما بعد الرحيل رغم عدم معرفتنا بالظروف التي ستكون هناك، ولكننا مطمئنون إلى أنها أفضل حالاً من هنا بالتأكيد”.
وتختم “ليس تفصيلاً أن تدفع الأمهات أولادها للرحيل عن لبنان، ليس تفصيلا أن يتابع أهلنا الأوراق المطلوبة وأن يطمئنوا منا على سير ملف الهجرة ويسعون لتسريعه، لطالما ارتبطت فكرة الهجرة بالفراق والحزن، ليس تفصيلاً أن يصبح الفراق نجاةً في هذه البلاد، أن يحثك أحبابك على الرحيل بدافع الحب”.