لبنان الوطن الفاشل .. والدولة الفاشلة .. والشعب الفاشل.
بقلم : عباس صالح*
فشلت المكونات اللبنانية، بمجملها، في صناعة وطن، كما فشلت الدولة فيه بأجهزتها كافة، بإقامة نُظُم وآليات تُشعِر الناس بالعيش في كنف سيرورة القانون والنظام الذي ارتضوه، تماماً كما أخفق الشعب بكل شرائحه، وبلا استثناء، في أن يخرج من قوقعة التبعيات العمياء للطائفة وللزعيم الذي يتصرف بدوره كإلهٍ نُصِّبَ على العرش ولا يستريح.
هذا الإخفاق المثلث الاضلاع جعل من لبنان واقعاً محطة سراب، لا حياة فيها، ولا نبض، ولا أمل للأجيال الصاعدة ببناء مستقبل ترتجيه، فترحل لتبني الأوطان، وتقيم الصروح، وتسهم بنهضة الانسان، وتنشر القيم في بلاد الله البعيدة.
على مستوى الوطن، منذ قيام دولة لبنان الكبير قبل قرن من الزمن، لم يتمكن الساسة والزعماء اللبنانيين من ترسيخ هوية موحدة للوطن، بما تتضمنه الهوية الوطنية من قيم وقواعد ومسلمات وثوابت وانتماء لأرض وحدود والذود عنها واسترخاص كل شيء وكل الخاصيات أمامها، وتقديم الغالي والنفيس في سبيلها، فضلاً عن الانتماء الروحي والعاطفي والوجداني لتلك البقعة الفريدة بزهوها وعظمتها في مخيلة المنتمين. بينما الواقع ان لبنان اليوم عبارة عن بلد بعدة هويات وطنية. اذ ان بعض أبنائها يستهويهم الغرب ويرتبطون به فلسفياً وروحياً وعقائدياً ويتخذونه انموذجاً ونمط حياة، الى درجة تقليده في كل شاردة وواردة، في حين ان البعض الآخر لا يستسيغون من الغرب سوى بعض من مفاهيم الحياة المعاصرة ، ويقدمون القيم الشرقية وسبل عيشها على كل ما سواه. وبين هذا وذاك الكثير الكثير من الانتماءات الحضارية والثقافية والدينية والمذهبية والقومية والعرقية والإتنية وسواها.
وكل طرف يدافع عن انتمائه الى حد الاستماتة، ويصوِّر الوطن بالصورة التي يرتضيها ويتوخاها.
تأسيساً على هذه العجالة المختصرة في سياق البحث في الهوية الوطنية اللبنانية، يمكن لنا ان نستشف خلاصة مؤداها ان الهوية اللبنانية عبارة عن هويات مشتتة وضائعة بين فئات وشرائح متعددة الانتماءات والولاءات والتبعيات، وبذلك لا نغالي، ولا نجافي الحقيقة اذا قلنا ان الوطن اللبناني بمثابة نُتَف من اوطان متعددة متجمعة على قطعة ارض كبيرة.
على مستوى الدولة أيضاً لم يتمكن القيمون على هذه البلاد ورعاياها من إقامة دولة بمعنى إنشاء مؤسسات مستقلة تنظم حياة المواطنين والمقيمين بالشكل الذي يحاكي العصور المتوالية ويؤمن استمرارية الانسان وإراحته وتؤمن حقوقه كمواطن في مجتمع متكامل ومنتظم في دورة حياة منتجة تماثل حياة الآخرين في دولهم ومؤسساتهم. بل على العكس، فحتى تاريخه ما تزال المؤسسات اللبنانية بمجملها عبارة عن مزارع موزعة على الطوائف والمذاهب، ولا تعنيها سوى التوازنات الدقيقة في الادوار والوظائف، وتراها بكل مكوناتها، وعلى تعددها، محكومة بعقلية المزرعة الفعلية إن من حيث التعاطي مع القطعان، أو من حيث الاستئثار بإداراتها وبإيراداتها ومغانمها، والاستحواذ على منتجاتها وعائداتها في سياق السيرورة. وكل ذلك في ظل التقاطعات الكبرى والتفاهمات العميقة الراسخة ضمنياً بين كل المؤثرين في قرارها من الساسة وبين القيمين عليها وبين عديدها وموظفيها بالتصدي الشرس والمستميت لأي محاولة تغييرية، او أي نفضة نهضوية، ولذلك كان الفشل المحتوم سلفاً مصير كل المحاولات الخجولة التي جرت سابقاً على أيدي إصلاحيين عبروا في تاريخ لبنان منذ قيامته، حتى ان بعضهم قُدِّم للمحاكمة وبعضهم تم تخوينه وإلصاق التُهَم به، وبعضهم قُتِلَ، والبعض الآخر مات قهراً … إلخ
بذلك باتت المزارع اللبنانية المعنية بتوثيق سيرورة المواطنين ونظم أمورهم وممتلكاتهم أبعد ما تكون عن مؤسسات الدولة التي يفترض انها من أهم وأولى دعائم ومرتكزات الوطن، وهذا بدوره أيضا كان وما يزال عائقاً إضافياً امام قيام الوطن.
أما على مستوى الشعب، بل الشعوب اللبنانية، فهي الشعوب الفاشلة حتماً، لأنها هي التي أخفقت في صنع وطنها وإقامته حقيقة، وهي التي أنتجت بيديها المزارع على انواعها المختلفة، وهي التي ارتضت منذ قيامة لبنان، ان تشكِّلَ قطعاناً طائفية تسير خلف راعيها الى حتوفها، وهي التي تسهم في تعزيز ثقافة الزبائنية لدى الاوليغارشية الحاكمة، وهي التي تعمم ثقافة الفساد، واللصوصية، والتبعية العمياء، وهي التي تمارس الخنوع وترتضي الذل أمام الجبناء من بلطجيتها السماسرة، وهي التي ما زالت تمجِّد قاتليها وتهلل للغلط !.
——————–
*رئيس تحرير موقع “أخبار الدنيا”