“اخبار الدنيا” – دانيا يوسف
في البدء كان النهر ومن ثم جسر ثم طواحين وحكايات…
ينشر “نهر العصفور” عبير الصنوبر والدلب والصفصاف مع رذاذه المتطاير على صخور صقلتها مياهه ونحتتها قطعا مضيئة برّاقة كالماس…
بلدة عريقة… حجارتها تحكي قصص التاريخ والقوافل التي مرت فيها…
“بزيزا” بلدة تغزل تاريخا من الصخور الشامخة بمزيج غريب من الماضي والحاضر وتشكّل مع جارتها “بحبوش” ثنائيا رائعا من التآلف والعيش المشترك.
على بعد 83 كلم من العاصمة بيروت، تقع بلدة بزيزا احدى قرى قضاء الكورة في شمال لبنان. تؤدي اليها الطريق الممتدة من بيروت-طرابلس مرورا ببعض البلدات منها البحصاص-الهيكلية-ضهر العين-عابا-بشمزين-أميون وصولا الى بزيزا…
انها بيت الاله… هذا ما ورد في تفسير اسمها… الباء في التسمية اختصار لكلمة بيت، والباقي معناه عزيز وهو اسم الاله السامي القديم…
تدخل بزيزا بين أشجار الزيتون على طرقات صغيرة متعرجة، تترك للاخضرار مكانة كبيرة فيها…
وصلناها مع همسات الندى وبسمات الأزهار والرياحين… عبرنا الأزقة والطرقات اليها حيث ملتقى الحضارات في التاريخ…
بلدة للاثار القديمة:
ما بين سنة 235 ق.م و 192 ق.م حكم روما أباطرة من اصل فينيقي عملوا هؤلاء على بناء المعابد والقصور والقلاع والهياكل والجسور وهذا ما نجده على طول الساحل اللبناني في طرابلس، اميون، داربعشتار، وفي بلاد البترون وجبيل وبيروت وصور. اما المعابد الفينيقية فنجدها في كل من بزيزا، عين عكرين وهذا يفسر غنى المنطقة بالإنتاج الزراعي. وجاءت في موسوعة طوني مفرج ان قرية بزيزا الحالية تقوم على انقاض بلدة قديمة، خربة، حار العلماء في امر سر خرابها، وقد وجد الاهالي واثناء القيام بحفريات من اجل الزراعة والبناء حجارة كانت اصلا للبنيان.
وفي بزيزا، العديد من الاثار والحفريات اظهرت بقايا ابنية وآنية من الفخار القديم واسرجة للزيت، ما يثبت ان القرية كانت مأهولة بالسكان من قديم الزمان، وعثر فيها ايضا على فوانيس صغيرة من فخار وآثار مبنى كبير مطمور على بعد 200 متر من الهيكل باتجاه البحر، وهناك آثار بناء قديم معروف بكنيسة العواميد وهيكل روماني يتميز بروعة النقوش، وفي خراج القرية عثر على دهاليز تحوي فوانيس قديمة وبقايا عظام يعتقد انها كانت مدافن ملوك الهيكل وكهنته، كما يوجد فيها جسور وطواحين وكنائس.
أبناء البلدة مثال للعيش المشترك:
ولئن شكّل الموارنة أكثرية الأهالي في بزيزا، فهم الى جانب أبناء طائفة الروم الأرثوذكس وأبناء الطائفة الشيعية يشكلون حلقات تعايش روحي واجتماعي وانساني. ويعمل اهالي البلدة بالزراعة ويهتمون بالأرض ومنتوجاتها لا سيما أشجار الزيتون التي تشتهر بها منطقة الكورة بأكملها.
تبلغ مساحة بزيزا حوالي أربعة كيلومترات ونصف الكيلومتر وتعلو عن سطح البحر حوالي 400 مترا ويربو عدد أهاليها على 1500 نسمة.
تابعنا الجولة ووصلنا الى ساحة القلعة كما تسمى، وهناك طالعنا المعبد الروماني بأعمدته الاربعة التي تعلوها حجارة مستطيلة ومنقوشة بطريقة رائعة الجمال بأشكال فراشات وأغصان أشجار. وتتناثر على الأرض في محيط المعبد صخور ضخمة مصقولة.
نهرُ ومطاحن وحكايات:
لا تذكر بزيزا الا ويذكر معها نهرها الذي جعلها في ما مضى جنة غناء، حيث كان يجري داخل بساتين البلدة، ويندفع الى المطاحن المائية القديمة التي كانت في الماضي القريب تضج بالحركة والعمل والنشاط، فيقصدها أهالي المنطقة لطحن القمح.
ولم يبق من هذه المطاحن اليوم سوى المبنى العتيق المتهدم الذي يشير الى أنها كانت موجودة في يوم من الأيام.
بحبوش جارة بزيزا و “المنزلة بين الرئتين” كانت وجهتنا التالية…
الى الجنوب من بزيزا تقع بلدة بحبوش ولا تتعدى المسافة بين البلدتين الكيلومتر الواحد.
فقد لاحت بحبوش عروسا قابعة في أحضان كروم التين والزيتون ومزنرة ببعض الجبال الشاهقة المتمردة…
بلدة صغيرة رصيدها الأول جمالها والهدوء المسترخي في ربوعها ومعالم جميلة ببساطتها وانسجامها مع محيطها الطبيعي.
يحدها نهر العصفور من الجنوب والغرب ويعطيها ثروة طبيعية مميزة تعتمد على الاشجار الصنوبرية من سنديان وشربين وصنوبر اضافة الى الاشجار المثمرة من زيتون وكرمة.
أصل الاسم يعود الى اللفظ السرياني المركب bet hbush ومعناه مكان الحبس او محبسة راهب ناسك، تدل آثارها على أنها قديمة العهد ولكن سكانها الحاليون ليسوا قديمي العهد في هذه البلدة فقسم منهم أتى من بنهران المجاورة والقسم الآخر من بشري.
بلدتا بحبوش وبزيزا جارتا النهر، حكايتان جميلتان مشغولتان بأنفاس العبق تتعاون على ارساله ألوف الرياحين. العبق أيضا من مزايا أهلهما: نفوسهم أكبر من اجسادهم، أياديهم سخية بالعطاء، قلوبهم عامرة بحب تراب الوطن، دماؤهم مجبولة بحمرة التين ونضرة الزيتون.
________