فنون الشوارع …هل يعكس فشل الفنان؟ او نزول الفن من علياء الصالات والمسارح الى الطرقات؟
“الدنيا نيوز” – دانيا يوسف
من ظواهر الحياة العصرية في المدن الأوروبية والأمريكية بشكل خاص، نزول الفن من علياء صالات العرض والمسارح إلى الشوارع.
وبات مشهد عازفي الكمان أو آلات النفخ مالوفاً في الساحات العامة ومحطات القطارات، وحيثما هناك حركة مشاة قوية. ورغم تفاوت مستويات أداء هؤلاء، وبعضهم من المجيدين، فإنهم هناك لأن “المفوضية” الثقافية الحاكمة لم تحتضنهم، فبقوا على هامش الحياة الثقافية الرسمية لهذه المدينة أو تلك.
وإن كانت موسيقى الشوارع هناك، فإن وجودها يعود في معظم الأحيان إلى عوامل فردية، تتراوح ما بين عدم ارتقائها إلى المستوى المطلوب في المسارح الراقية، وسوء التدبُّر في إدارة العمل عند الفنان الجيد، تدل على ذلك علبة جمع النقود من المارة. وفي كل الأحوال، يبقى الخطاب الاجتماعي لموسيقى الشوارع محصوراً في إطار ضيق للغاية، على عكس فن الرسم في الشوارع ذي الخطاب الاجتماعي الصارخ، الذي بات حاضراً بقوة في تاريخ الفن المعاصر، حيث يشكِّل فصلاً كاملاً من فصوله الحية والمتطورة باستمرار.
من الكلمة إلى اللوحة الجدارية
ظهر فن الشوارع أولاً في ناحية برونكس في مدينة نيويورك خلال ستينيات القرن الماضي. وكانت نواته الأولى الشعارات السياسية والاجتماعية التي يرفعها أناس لم يجدوا منابر أخرى للتعبير عنها. وبعدما كان خطاب هذ الشعارات يقتصر على مضمونها، راح أصحابها يجمّلونها ويتفنون في صياغتها الشكلية للفت مزيد من الانتباه إليها. ففي أواخر العقد التالي، بلغ فن الكتابة الجدارية مرحلة متقدِّمة على المستوى الجمالي، بإضافة الرذاد الملوّن إليه.
لم يكن روَّاد هذا الفن من المحترفين، ولكن سرعان ما انضم إلى قائمتهم بعض الموهوبين فعلاً الذين تمكنوا من إضافة الرسم إلى الكتابة انطلاقاً من محطات قطارات الأنفاق أولاً، وصولاً إلى الجدران الخارجية للمصانع، أو حيثما وجدوا مساحة لذلك. وتعزَّز فن الشوارع بتزامنه مع حركة احتجاجية عالمية ضد تجارة الفن وتسلُّط التجار على توجيه الفنانين، وهو الأمر الذي أدى إلى الدعوة إلى إنتاج فن غير قابل للبيع والشراء، ومن أبرز تياراته “الفن المفهومي” الشهير في الوقت الحاضر. وهكذا كبرت قائمة فناني الشوارع بانضمام بعض الخرّيجين الجامعيين ومزيد من الفنانين الموهوبين فعلاً الذين وجدوا في الجدران القائمة في فضاءات عامة فرصة لإيصال فنهم إلى جمهور أعرض من جمهور قاعة العرض. وتمكَّن هؤلاء الذين بدأوا كهامشيين لا يحسب لهم حساب من فرض أعمالهم على الحراك الثقافي، وصولاً إلى الاعتراف الرسمي بقيمتها، وحماية حقوق ملكيتها الفكرية.
ففي الولايات المتحدة، بات من الممكن لفناني الشوارع تسجيل حقوق أعمالهم، “شرط أن يكون تنفيذها قد تم بشكل قانوني”. وفي قانونية فن الشوارع تتداخل أطراف كثيرة، أهمها: الفنان بحد ذاته، وصاحب الأرض أو الجدار الذي يحمل العمل الفني، وسلطات المدينة، وصولاً إلى الجيران الذين يشاهدون هذا العمل. وفي هذا ما يؤكد أن الفن الذي نشأ هامشياً لم يعد كذلك، بل انضم إلى قائمة التيارات الفنية المعاصرة المقبولة لدى صالات العرض ودور المزاد العلني.
بانكسي
من الشارع إلى أرقى المتاحف
تستحق السيرة الفنية لبانكسي التوقف أمامها طويلاً لما لها من وزن في تاريخ فن الشوارع الحي حالياً، وكيفية اختراق فنان هامشي للحياة الفنية المعاصرة.
وبانكسي هو لقب فنان مجهول الهوية الحقيقية، يرجح البعض أن اسمه الحقيقي نيل بوكانان، ويقول آخرون إنه جامي هوليت، أو روبرت ديل ناجا. ولا يظهر هذا الفنان إلا في الظلام، ليرسم على جدار ما ما يريد، وغالباً باستخدام تقنية الطباعة الحريرية، التي تسمح له بمد قطعة مخرمة وفق رسم معيَّن، ورش الطلاء فوقها لتنطبع الصورة على الجدار. وكل ما سمح بتسريبه عن حياته الخاصة هو أنه بدأ يرسم في الرابعة عشرة من عمره بعدما طُرد من المدرسة، كما دخل السجن لفترة بسبب جنحة ما.
لم تكن القيمة الجمالية ما لفت الأنظار في البداية إلى أعمال بانكسي، بل خطاباتها الإنسانية العامة والواضحة التي تراوحت ما بين الشأن البيئي العالمي وحتى القضية الفلسطينية. الأمر الذي جعل جيل الألفية، وخاصة الناشطين منهم، يَعُدُّونه بطلاً متحدثاً باسمهم. وهنا تدخل تجار الفن، فاحتضنوا هذا الفنان كما يحتضنون كبار أساتذة القرن العشرين.
فبعض أعمال بانكسي المنقولة والصغيرة الحجم، وهي غالباً أعمال طباعية دخلت دور المزاد العلني من أوسع أبوابها. فلوحته “فتاة مع بالون” على سبيل المثال، بيعت في عام 2004م بمبلغ 275 جنيه إسترليني، وأعادت دار المزاد كريستيز بيعها مؤخراً بأكثر من مليون دولار بقليل. أما أعماله على جدران الشوارع، فباتت تتعرَّض للتفكيك حيثما كان ذلك ممكناً لنقلها إلى دور المزاد العلني ومتاحف الفن الحديث. وبانكسي ليس الوحيد الذي حقَّق هذا النجاح، بل هناك كثيرون ممن يتمتعون اليوم بمكانة مشابهة، وإن تفاوتت مستوياتها.
وفي الختام نشير إلى أن آخر أعمال بانكسي ظهر فجأة على جدران عربة قطار أنفاق في لندن، ومثّل دعوة إلى ارتداء القناع الواقي من فيروس الكورونا. وعملاً بالقانون الذي يمنع الكتابة أو الرسم على جدران القطارات في لندن، تمت إزالة هذا الرسم. ولكن إدارة القطارات أعلنت عن استعدادها لتخصيص مكان آخر يمكن لبانكسي أن يرسم عليه ما يشاء، وفي ذلك تعبير عن مرارتها مما اضطرها القانون إلى القيام به.