غزّة… فاضَ كأس الدم

 

 

 

بقلم العميد منذر الايوبي*

لم يأتِ المشهد ولا يمكن وصفه سوى بعبارة (مظاهرات بين ركام)؛ كما لم يكن مفاجئآ خروج اهل القطاع المحاصر والمُدََمر منددين بحركة حماس داعينّ لرحيلها في شوارع هي اصلآ باتت مسكنهم تحت نار القصف وصقيع الطقس..! هم الذين صمدوا وتحملوا ما لا يمكن لشعب تحمله.. ثم ان رأس حكومة العدو لطالما راهن على هذا الامر معتبرآ انها احد اوجه تعرية المقاومة الاسلامية “حماس” امام شعب غزة وجمهورها دفع وضعها في خانة التفريط بهم وقودآ امام آلة الحرب الاسرائيلية، وعلى هذا الاساس عَبَدَ جيش الاحتلال من خلال همجية وقسوة مسلك عصيان على حماس محاولآ إرتداء ثوب النعجة تضليلآ عن واقع التاريخ والشرائع ان إنتفاضات الشعب الفلسطيني وجهتها الصحيحة الاحتلال الغاصب..!

اسئلة تطرح في هذا السياق منها ما يثير الشبهات وأُخَر من منظور الحقيقة وحجم المعاناة تُلخَص من منظورين: شبهة تحريك التظاهرات والاحتجاجات من قبل جهاز الشاباك، إذ يُستنتج ان إقالة رئيسه رونين بار مرتبطة بأربع:
1- سقوط القدرة على تحقيق الامن الوقائي سيما في توقع ورصد تحضيرات المقاومة وبالتالي إفشال عملية طوفان الاقصى.
2-تركيز اساسي على رصد تحركات حزب الله تسليحآ وعديدآ سيما القاعدة الرئيسية لامينه العام واماكن تواجد قادة الصف الاول مع تحضير تقني لتنفيذ عملية امنية تقنية قذرة (تفخيخ اجهزة البايجر والارسال اللاسلكي المزدوج) كشفت عن نموذج رديء لخونة الداخل التنظيمي.
3-توازيآ انكشاف استخباراتي من ناحية حماس-غزة لإهمال تقييم او إنعدام جدارة سواءً لجهة تحديد اماكن الانفاق المستحدثة ومسالكها وتطور منشآتها، كما تعذر زرع شبكة مخبرين فاعلة يمكن تحريكها عند الإقتضاء تخريبآ او تحريضآ.
4-انعدام العلاقة التكاملية او “التنافر” بين شخصيتين وبالتالي غياب الكاريزما والانسجام مع رئيس مجلس الحرب بنيامين نتنياهو..!

لا جدال ان عملية طوفان الأقصى بطولية غير مسبوقة في تاريخ مقاومة إحتلال غاشم، لكن العقل يسأل بعد بعض زمن مَرّ وبروز حجم ارتدادات وضحايا.. أَٰ هيّ بقرار منفرد من قائد الحركة يحيى السنوار ام بدفع إغراءِ وهمُ نصرٍ من داعمين او حلفاء..؟ ثم ان عمق بصيرة المقاومة كانت قاصِرَة عن قراءة عقل بنيامين نتنياهو والرؤية الاستخباراتية فشلت في تلمس عمق تحول اركان جيش العدو وقيادته السياسية الى عقيدة جديدة في بعض اسسها:
1-لا خشية من حرب طويلة بالتزامن رفع الامكانات اللوجستية مع تفادي تحولها حرب استنزاف، كما لن تكون عائقآ زمنيآ امام تحقيق نصر او خوف من هزيمة.
2-التحضير لمواجهة استراتيجية محور المقاومة الجديدة القائمة على فتح عدة جبهات في آن؛ سيما بعدما اُعلِن عنها وهُدِد بها من منطلق الردع الإستباقي.
3-ا قيمة فعلية او انسانية للرهائن مهما كثُر عديدهم او اهمية مناصبهم وفقآ لبروتوكول “هانيبال” الاسرائيلي «جندي قتيل خير من جندي اسير» فوجودية الدولة اليهودية فوق كل اعتبار.
4-تقليص مهام وحدات التدخل الكوماندوس لتقتصر على مهام محددة لا تعادل في اهميتها قدراتها بالمقابل الاعتماد على موجات إغارة كثيفة من سلاح الجو مع قنص الاهداف بالمسيرات.
5-قصف مدفعي غير هامد ضمن فكرة المداورة كرس تكتيك الأرض المحروقة مع خلق احزمة نارية تطوق بقعة العمليات.
6-قتل عشوائي مُشَرع من قيادة الجيش الاسرائيلي، خارج قواعد الحرب النظيفة او التزام القوانين الدولية لا يستثني مدنيين نساءً واطفال وفق عقيدة الإبادة التلمودية: “دمر اماكنهم المقدسة واقتل رجالهم ونساءهم واطفالهم ومواشيهم”.

توازيآ، ليس بيد المقاومة الاسلامية في غزة سوى صمود مُحصن مانع تهاوٍ شعبي على وقع الحصار وورقة الرهائن؛ فيما اعتمد بنيامين نتنياهو (نظرية الإستيعاب) منفذآ المرحلة الاولى من إتفاق وقف اطلاق النار كداعِ إمتصاصٍ جزئي لنقمة ذوي المحتجزين وايضآ معارضي سياسته من وزراء وقادة عسكريين؛ رافضآ التزام المرحلة الثانية المؤدية الى هدنة طويلة ضامنة انسحابآ كاملآ، تليها الثالثة المتعلقة باعادة الاعمار وفتح المعابر.. فيما اقتصر “الاستيعاب” لدى حركة حماس على بيان مكتبها الاعلامي: “إن الشعارات المعارضة للحركة التي رفعت خلال الاحتجاجات ضدها عفوية لا تعكس الموقف الوطني العام”.. داعيآ إلى “الوحدة الوطنية وأن يوجه الغزيون جهودهم لمواجهة الاحتلال ومخططاته”.. في السياق، اعتبر جهاز امن المقاومة ان العدو يتبنى حملة تحريض ممنهجة سيما (إثر دعوة وزير دفاع جيش العدو يسرائيل كاتس المواطنين في قطاع غزة للخروج ضد المقاومة والمطالبة بطردها من قطاع غزة وتسليم الأسرى الصهاينة). موجهآ إتهامه في آن لجهات امنية فلسطينية تنسق مع جهاز الموساد تعمل على تأليب الرأي العام لأغراض سلطوية وسياسية بحتة”.

من جهة اخرى؛ فيما لا يزال الاستقرار الاقليمي غير يسير إثر التغيرات الجيوسياسية العاصفة؛ تبقى غزة امام مفترق خطير لإنسداد الأفق وتوفر عوامل التهجير رغم مكابرة؛ ثم ان لا كثير خيارات.. للبقاء تحت وهج النار ثمن وفي وطأة الرحيل ما هو افدح.. لتبقى المقاومة بإخفاقاتها ونجاحاتها سُنَة الشعوب رغم ان عمق الألم قد يُسقط الامل، اضافة الى ان القوة الطاغية لا تقارن مع حجم حماس وامكاناتها ما يجعل اهل غزة امام معادلة صعبة فالتخلي عنها تخلٍ عن ابنائها وعودة الحرب تعني مزيدآ من الضحايا والدمار؛ ما يوجب تحركآ دوليآ عاجلآ حقنآ للدماء يعيد إحياء اتفاق وقف اطلاق النار عبر الوسطاء القطريين-المصريين مع البدء بتنفيذ المرحلة الثانية من صفقة الرهائن رغم اعتبار نتنياهو وقفها يساهم في ضمان استمرارية حكومته.

لهذه المنطلقات بات العالم بقياداته امام مسؤولية تاريخية، إذ لا يجوز وخارج كل الشرائع استخدام الغذاء والدواء سلاحآ، كما ان اقتراحآ مُحدثآ ضمن نظرية (تضييق الفجوات) يركز على اتفاق جديد طرحه من العاصمة القطرية ستيف ويتكوف مبعوث الرئيس الاميركي للشرق الاوسط يصب في خانة العودة الى المربع الاول، بالتالي منح السَفاح مزيدآ من المماطلة وبالتالي استمرار حرب الإبادة.

ختامآ؛ أنىَّ لشعب غزة والفلسطينيين عمومآ الوثوق بقتلة الانبياء.؟ ويتساءلون لماذا نحن.؟ أَٰ سخط القدر ام غضب القدير .. قد فاض كأس الدم وجاوز الظالمون المدى، فيما صمت حكام البسيطة عن المذبحة مهول، لا عتب على احتجاجات وتظاهرات بعد ان تجاوز عدد الشهداء والقتلى الخمسون الفآ؛ إذ ورد في فيض القدير للمناوي الإمام: “قرن الفقر بالكفر لأنه يجر إليه”؛ فكيف بالفقر صنو جوع وفي الاستشهاد فقدان أحبة وتشتت عوائل تفترش الارض وتلتحف السماء..!

*مختص في الشؤون الامنية والاستراتيجية