عنصرية الشرطة تعرض فرنسا لحرب اهلية..!
بقلم العميد منذر الايوبي*
الثلاثاء الماضي 27 حزيران وحوالي الساعة 7:45 بالتوقيت المحلي رصدت نقطة مراقبة مرورية للشرطة الفرنسية في ضاحية “نانتير” Nanterre الباريسية سيارة نوع مرسيدس صفراء اللون تحمل لوحة تسجيل بولندية يقودها شاب في مقابل العمر برعونة وبشكل متهور على المسار الخاص بالحافلات. عمدت الدورية الى ملاحقة السيارة حيث ساعد الازدحام المروري في توقيفها وبداخلها ثلاثة اشخاص ولدى محاولة السائق اعادة تشغيل محركها بقصد الفرار، اطلق احد عناصر الشرطة النار من مسدسه الحربي الاميري باتجاهه مباشرة “خلافا للقانون المتعلق بقواعد استعمال السلاح ” مما ادى الى مقتله على الفور. تم توقيف احد رفاقه فيما لاذ الآخر بالفرار. تبين لاحقآ ان القتيل يدعى نائل المرزوقي 17 عامآ فرنسي الجنسية من اصول جزائرية وان الرصاصة من عيار 9 mm اطلقت من مسافة قريبة مستقرة في صدره ورئته بعد ان اخترقت ساعد يده اليسرى..
من جهة اخرى؛ اتى الحادث المأساوي بعد كثير من تراكمات على المثل العربي (القشة التي قصمت ظهر البعير the straw that broke the camel’s back) ما تسبب بعد مسيرة بيضاء قبل يوم التشييع الى تطور الامور نحو مظاهرات غير سلمية واحتجاجات عنفية شملت معظم الضواحي الباريسية Les îles parisiennes وان بنسب متفاوتة، ما لبثت ان امتدت الى معظم المدن الفرنسية (مرسيليا، ليون، تولوز، ستراسبورغ، ليل) لا سيما تلك التي يقطنها مهاجرين (ذوي البشرة السمراء P.B) Peau Brune..!
في مختصر الوضع العام وبإستخلاص آني لمجرى الاحداث وفعالية الاحتواء يمكن التبيُن والاشارة الى ما يلي:
*منذ عقود والدولة الفرنسية تحتضن المهاجرين من دول شتى تؤمن لهم الحماية وتكفل لهم الحريات الخاصة والعامة. تبع ذلك لاسباب ظرفية وحوادث متكررة كما ممارسات فئوية حكومية وادارية تحول المجتمع الفرنسي طبقتين اهل البلاد الاصليين اضافة الى المهاجرين الذين اندمجوا وتكيفوا تلقائيآ مع المجتمع الفرنسي بعاداته وثقافته وسلوكياته ملتزمين القوانين والاعراف، فيما ضمت الطبقة الثانية من “عرب وافارقة” سبق ونالوا الجنسية الفرنسية نتيجة انتمائهم الى المستعمرات السابقة كما على خلفية موالاة اهاليهم للمستعمر في كثير من الحالات، هؤلاء في معظمهم لم يتأقلموا مع المجتمع المحلي رغم انهم باتوا في مرحلة الجيل الثالث، مشكلين غيتوات منعزلة نوع من احزمة بؤس في صفاتها “بطالة، عطالة ودخل منخفض” ساهم في تكاثرها وتوسعها اهمال الدولة سواء على صعيد المرافق العامة والبنى التحتية ام على مستوى تامين الرعاية الاجتماعية وفرص العمل،.!
*رغم علمانية واقعية اضفى فكر الغائي استشرى عدوى نبذ هذه الفئات المهاجرة من معظم شرائح المجتمع الفرنسي سيما ان انتمائهم هو للدين الاسلامي الحنيف ما ساهم في تعميم ثقافة الكراهية وادت الى ردود فعل عدوانية متفاقمة مترافقة مع تمرد على القوانين وانتشار الجريمة المنظمة على اختلافها..!
*في مجتمع عنصري تفضيلي منقسم سياسيآ بين يسار ويمين كذلك دينيآ بين علماني ومسيحي ملتزم، اصبح ملف المهاجرين ورقة انتخابية وواجهة شعبوية “ترحيلآ ام احتضانآ” بيد الاحزاب السياسية، سيما اليمين المتطرف المناهض وجودهم، واذ حاولت الحكومات الفرنسية المتعاقبة الموازنة بين السيطرة على الهجرة وتلبية احتياجات الدولة من العمالة الاجنبية سقطت مجموعات من الفئة العمرية الشبابية المهاجرة فريسة سهلة تم استيعابها من قبل النتظيمات والجمعيات الدينية الاسلامية المتطرفة ..
تزامنآ؛ تمددت ثم سادت ثقافة التمييز العنصري لدى افراد الشرطة الوطنية من مختلف الرتب على خلفيات متعددة، ليس اقلها ارتفاع عددي للمجرمين والخارجين عن القانون المتوارين في هذه التجمعات، كذلك النسبة المرتفعة من الجرائم المرتكبة، ما جعل السلوك الشرطي عنفي حذر الى حد بعيد، متفلت أحيانآ من ضوابط القانون مدجنآ القضاء في معظمه لمصلحته ولحماية عناصره..!
على صعيد آخر؛ اذا كان الوضع الاجتماعي والمعيشي كما العدوانية المفرطة من قبل اجهزة انفاذ القانون من اهم اسباب ما يحصل؛ الا ان الحكمة كانت تفتضي لجوء الحكومة الفرنسية الى حلول ولو مرحلية والاعلان عنها حالآ هدف امتصاص النقمة تهدأة النفوس ووأد الفتنة، مع اقرار خطة خمسية تؤمن العيش الكريم واللائق رفعآ للبؤس والحرمان.. لكن الرئاسة الفرنسية اعتمدت خيار المواجهة (ربما لترك المعالجات الجذرية الى مرحلة لاحقة) اذ انعقدت خلية الازمة الوزارية المصغرة CPC- CELLULE DE PRÉVENTION ET DE CRISE للتداول في كيفية مواجهة الوضع المتفلت مع قرار ضخ المزيد من وحدات حفظ الامن والنظام “45000 عنصر من الشرطة والدرك الوطني”، اضافة الى تريث مرحلي في اعلان حال الطواريء وتكليف قيادة الجيش الفرنسي التدخل وتثبيت الامن..!
في السياق؛ بعد ستة ايام من الاحداث الدامية وفي ظل تدهور متفاقم متسارع للوضع الامني العام كما التخبط السياسي ضمن معادلة الجمع بين الحزم والانسانية، اضافة الى بطء وعجز القوى الامنية عن فرض الامن والنظام بالقوة القاهرة وبالتوقيت الوقائي المناسب ، ليس مستبعدآ لا بل بات مؤكدآ ان اللحظة المؤاتية قد حانت لتدخل اجهزة استخباراتية خارجية “مع التحفظ” ضمن استراتيجية المواجهة الغير مباشرة على خلفية التحالفات والصراع السياسي والاقتصادي كما العسكري المحتدم على المسرحين الاوروبي والافريقي، فرصة تصفية حسابات على ارض خصبة دفع رفع وتيرة العنف وصولآ الى العصيان المدني، دون استبعاد المواجهات بالاسلحة النارية في مرحلة متقدمة قد تكون قادمة وبالتالي الانزلاق نحو حرب اهلية ولو محدودة..
في ادراك الريبة بعد تهيب، البنية الاستخباراتية الفرنسية “التي يحكمها القانون الصادر في يوليو 2015” والمركبة من ستة وكالات للامن الاستعلامي المخابراتي في حالة استنفار قصوى كل وفق اختصاصه ومهامه لا سيما جهازي الامن الخارجيِ(DGSE) والداخلي(DGSI)، اضافة الى المخابرات العسكرية(DRM، وهي اذ توسع بشكل غير مسبوق شبكة الموقوفين المشاركين في الاحتجاجات مرتكبي اعمال الشغب وجرائم اقتحام المؤسسات واحراقها كما تخريب المرافق العامة فلغاية الصيد الثمين كشف احصنة طروادة وخلايا العملاء الخارجيين المزروعين في مجتمعات ومناطق تواجد المهاجرين، كما لجأت في سابقة من فعل الاستدراك المفرط الى تحميل اهالي الفتيان العصاة على القانون مسؤولية مشتركة لارتكاباتهم مع ما يترتب على ذلك من عقوبات جنائية وصولا الى احكام بالسجن..!
خِتامَآ؛ في اشارة لافتة ضمن بُعدَي الفكر المتفلت من الضوابط الاخلاقية والثقافية والآخر الحضاري الملتزم تُظهِر خلفية المشهد الاوروبي في عاصمة الارثوذوكسية احتضان الرئيس الروسي فلاديمير بوتين للمصحف الشريف والجالية المسلمة، بالتوازي مع حرق وتمزيق نسخ القرآن الكريم في دول غربية اخرى، دون وازع لا بل بتشجيع غض بصر وعمى بصيرة..
ان تجاهل الحكومات في دول عدة لعواقب المس بالمحرمات واهانة المقدسات تكرارآ لن يكون سوى زرع قنابل موقوتة فتنوية على صفيح اوروبي ساخن ..!
————————-
طرابلس في 03.07.2023