بقلم : فاطمة صالح
______________
لم يبقَ لمحجوبة أيّ ركنٍ تسندُ عليهِ ظهرَها المكسور، أو غصنٍ تستمسِكُ بهِ، كي لا تسقط سَقطتَها الأخيرةَ، حينَ رأت بأمّ عينيها، وهي جالسةٌ بمُفرَدِها في ذلكَ المكانِ المُبهَمِ، هَياكلَ لكائناتٍ سوداءَ، بعضُها مُلثّم، تنهَشُ في جُثثٍ آدَميةٍ مُتهالِكةٍ، لم تعُدْ بها أيةُ قدرَةٍ على المُقاوَمة.. تبعثرَت روحُها باضطرابٍ ورُعبٍ لامَحدودٍ، حينَ تأكّدَت أنّ أخاها من بين أؤلئك الشباب.. وعندما جاءتِ اللحظةُ المرسومةُ، أطلَقَ أحَدُ الهياكِلِ رَصاصَهُ على الرؤوسِ المُشعثةِ واحِداً، واحِداً، وانهالَ الرصاصُ بعدَها من كلِّ الهياكِلِ المُتوَحِّشةِ، وراحتِ الأجسادُ الآدَميّةُ تتخبّطُ في بركةٍ من العشبِ الأحمرِ، الذي نبَتَ فجأةً في تلكَ الصحراءِ القاحلة.. هدأ الكونُ، وسادَ الصمتُ الرهيبُ، وهيَ جامدَةٌ في مكانِها، لا تأتي بأيِّ حِراكٍ، أو تطلِقُ أيّةَ صَرخة.. خرسَتْ مَحجوبةُ، فاغِرَةً فمَها المُتشقّقَ، جاحظةَ العينينِ، مَشلولة.. دارتِ الدنيا عدّةَ دَوراتٍ مُتسارِعة، استفاقتْ على إثرِها فوقَ سريرٍ أبيض، وخرطومٌ طويلٌ يَصِلُ وَريدَها بالكيسِ الشفّافِ المُعَلّقِ فوق رأسها، يكادُ ماؤهُ يبفد.. ابتسَمتْ لها امرأةٌ تتشِحُ بالبَياضِ، وقبّلتها من جبينِها : (الحمد للهِ على السلامة ).. راحتْ تبحثُ عن صَوتِها، دونَ جَدوى، تريدُ أن تسألَ ما الذي حَدَث؟ كانت تسمعُ أصواتَ الأنينِ تملأ الأرجاء، وهَرجاً، وصَخباً، وصُراخ.. لم تخَفْ.. لكنها حائرة.. وحينَ استرجَعَتْ ذاكِرَتَها، أطلقتْ صَرخةً، كَتمَتها كَفُّ أحدِهم، وَجهُهُ متجهّم : (اصمتي..! لستِ الوحيدة..انظري حَولك..).. ازدادَ هياجُها، وانقطعَ السلكُ الذي يغذّي أورِدَتها، وطارَتْ إلى خا رجِ المكان.. راحتْ تصرخُ بحرّيةٍ، لاتدري مَن كان يسمَعها، ولا يهمّها، لكنها سمعتْ صوتاً غليظاً ينهَرُها.. وسادَ الصمتُ، وانقطعَ اللهاث.. فتحتْ عينيها ثانيةً، مازالَ الخرطومُ مكانه.. خفتَتْ أصواتُ الأنينِ،وازدادَتِ الصّرخاتُ، والندب.
-ابتعِدوا.. أخرِجوني.. لا أريدُ أن أعيش.. لا أريد.. لا أريد.. يا خَيّي ي ي ي ي………….!! خذني معك..
-سنأخذكِ عندما يأتي دَورُك..
التفتتْ.. إنها نفسُ الهياكِلِ السوداء..
لم تخفْ هذهِ المرّة.. تجرّأتْ وسألتِ القاتِل :
-لماذا..؟! لماذااااا..؟!
رأتهُ يرفعُ السيفَ الذي نحَرَ بهِ أخاها حينَ قاوَمَ الرّصاص..
-اقتلني، يا ابن الكلب.. يا وَحش، اقتلني..
ترَكَها تصرخُ فوقَ كُثبانِ الرِّمالِ الحارّة.. تهيمُ، لا تدري أينَ الجِهات، ولا تهمّها الجِهات.. جهَةٌ واحدةٌ كانت تبحثُ عنها.. نظرَتْ إلى السواقي الحَمراءِ، تجري بينَ الأعشابِ الخضراء، ثمّ رفعَتْ رأسَها نحوَ السماء..
-يا خَيّ ي ي ي ي…..!! خذني معك.. لا تتركني يا فارِس..!!
رأتْ وَجهَهُ قمراً في لياليها الحالِكة.. حاوَرَتهُ، وأخبرَها أنهُ مرتاح.. اطمأنّتْ قليلاً.. الشهداءُ لا يموتون..
كلُّ ذنبِهِ أنهُ كانَ يحارِبُ الإرهاب..كلُّ ذنبِهِ، وذنب رفاقِهِ الأبطال، أنهم قاوَموا المُعتدينَ على الوطن..
(لسنا مُعتدين.. ولم نكُ، قَطُّ، مُعتدين.. إنما ندفعُ عن أنفسِنا وشعبِنا القتلَ والتدمير..).. لكنّ هذهِ الحرب القذرة أدخلَتِ المُعتدينَ إلى دارِنا، وراحتْ تحاربُنا من تحتِ الأرضِ، وبين الأزقّة، وفي المَطبخِ، والصالة، وفي غرَفِ النومِ، وعلى الشّرفة، وحتى على حيطانِ المنازل.. وحينَ وَصلتْ إلى قربِ بابِنا، أطلقَ أخي الرصاصَ على أسرَتِهِ، ثمّ على نفسِهِ، كي لايَنالوا منهم.. لا.. لا.. ليسَ أخي مَن فعلَ ذلك..أخي كانَ مخطوفاً مع رفاقِهِ منذ أشهُر..
فاجأها السيفُ الأسوَد.. ثَبَتتْ.. لن تخيفني، بعد.. سأقلعُ عينيكَ قبلَ أن تنالَ مني، يا ابنَ العاهِرة.. فتحَتْ عينيها، وهَجَمَتْ عليه بأظافِرِها، لكنهُ فَرّ من أمامِها، واختفى، كأنهُ إبليسٌ لعين..
-سأقتلكَ، يوماً.. أقسمُ أنني سأقتلك.. سأشويكَ حَيّاً، كما شَوَيتَ إخوتي أحياء.. ليسوا إخوتي؟! كلّهم إخوتي وأهلي..كلّهم أبرياء.. ماذا فعَلوا لكَ، يا ابنَ الحرام؟!؟!
استفاقتْ على صَوتِ رجلٍ حَنون.. لم تصدِّق نفسَها..
هل أصَدِّقكَ، أيها الرجل؟!! من أينَ لكَ هذا الحَنان؟؟! من أينَ جاءَتكَ هذهِ المَشاعِرُ الإنسانية، وقد فقَدَها الناس؟!؟ من أينَ، يا ابنَ آدَم.؟!
-تعالي، لنجمَعَ شَتاتَ بعضِنا، ونبتعِدَ عن غبائِهم وجُحودِهم..فأنا مثلكِ، ابن آدم، كما تقولين.. تعالي يا امرأة، فأنا أحتاجُكِ..
-تحتاجُني؟! لا أحَدَ يحتاجُني..
-أنا أحتاجُكِ،جداً..
-وما الذي أقدرُ أن أفعَلَهُ لنفسي، كي أفعلَ من أجلِك؟؟!!
-أرجوكِ..!!
تصالَحَتْ معَ اللهِ، والمؤمنين.. تصالَحتْ معَ ذاتِها الإنسانية.. وتَبِعَتهُ..
-ماهذا الظلام؟!
-سأشعِلُ النور..
تراجَعَتْ إلى الخلف..
– تعالي.. لا تخافي..!
لم تُجِبْ..بل، لم تسمَع..ضَمّها إلى صَدرِهِ، وهي صامتة، مُحَدِّقةً، تشيرُ بإصبَعِها المَجروحةِ إلى الصورة..
-أيها القاتِل…….. صَرَخَتْ، دونَ صَوت.. أيها القاتِل.. أريدُ أن أذبَحَكَ بأظافِريَ، الآن..
التفتَ الرجلُ إلى حيثُ تنظرُ مَحجوبَة.. أفلَتَ خَصرَها، وهَرِعَ ليخفي صورةَ قاتِلِ أخيها..
في تلكَ اللحظةِ، كانتْ ساقاها الخمسينيّتانِ، تُسابقانِ الرِّياح..
أصواتُ الرصاصِ تلاحِقها، وصَليلُ السيوفِ السوداءِ فوقَ رأسِها، وهيَ تركض..
سَقطتْ في بركةِ عشبٍ أحمرَ، مازالَ حارّاً.. أحرَقَ رُكبَتيها، وراحَتيها..مَسَحَتها بصَدرِها، وتابَعَتِ الركض..
سَمعتْ صوتَ فارِسَ يناديها : أختي ي ي ي ي.. أنا هنا.. لا تخافيهم.. لاتخافي شيئاً، ولا أحَداً.. إنني هنا، قمَراً يحرُسُّكِ..
فتَحَتْ عينيها، ونظرَتْ نحوَ السماءِ المُكفهرّة..كانتِ الغيومُ تتبَدّد.. وَجهُ فارِسَ يبتسِم.
_____________________
*كاتبة وشاعرة سورية