صديقي التافه الصفيق الذي أشتاق له أحياناً سعيد بودبوز (الغبي)
بقلم: نائلة خطيب*
ألم أقل لكم لا أتذكّر حتى اسمي؟. لماذا لا تصدقونني، ولما تريدونني أن أتذكّر؟ أنا سعيدة هكذا، لا أصدق عينيّ ولاعيونكم، ولا أصدق أيّ شيء، أصدق فقط أن القطار يمرّ فوق السكك الوحيدة سريعاً كالبرق، صاعقاً إياها ونافثاً غضبهفي الهواء، صارخاً: صدقيني أنا القطار الحديدي وأنتِ مجرد جمجمة تركتك إحدى الأرواح على سكتي، لأنك رفضت أنتكوني بشرية، لا أسرار عندي، لا كبيرة ولا صغيرة. أنا النجوم التي تفضح ظلام الليل لتقاطعه وهو يمطر بأشباحه فوقالمظلومين والحزانى.
لست صديقة أحد إذن، وليس لي أي صديق، لقد أجريتُ عملية استئصال للأصدقاء، هذا كل ما أذكره من أصدقائي، إنهمشربوني كقدح ماء، ثم بالوني في المرحاض، وأنا التي لم تعرف طعم الماء إلا بصحبتهم، لا أريد عينينَ لأصدّقَ ما أرى، ولاأريد حمّالات صدر لأتحمّل صدري، ولا سروالاً داخلياً لأخفي عيوبي. لا أريد شيئا، سأكتفي بالشتاء ليمطر فوق ضفافذكرياتي، لعلّ براعمها تنمو يوما ما. سأكتفي بانتظار الصيف ليحصدها جميعا. أما الربيع، سأتركه لأمسياته الهانئةونوافيره المتدفقة، وسحنه المقلوبة على الأرض كأنها وردة صابون الراعي.
لي الخريف بالتأكيد، لي صفرة السعادة التي لا تمزح، لأسباب كوميدية لن أقولها، فربما لو قلتها لتملّكتني الغيره، فأبدأبالإغارة على الجسور فأحطّمها، لا، لا، مستحيل، سأغار على ضربة السوط فقط لتنسى أنني ابنة فلسطين، سأهديهامخالبي وأسناني وحقدي كي لا تغار عليّ أبداً، إنه زمن الغارات المخلّصة لغيوريها، وتاريخي الغيوري لا يغار منه أحد،أنا مهرّجة من الصفر الى الصفر، ليست البطولة أن تمحو الصفر، بل البطولة أن تكونه، والدليل مصداقية الصفر.. الصفر الكوني، الصفر الكوني الذي جعلني أصبح سعيدة، أو فريدة، أو خديجة، أو فتحية، او فتحي، أو فتح الله، أوسعيد، فيا إخوتي، لا تذكّروني باسمي، أنا لا أذكركم بشيء، لم لا ترتاحون مني وتقولون: طز مثلا…. لأرشها فوقرؤوسكم الفاخرة بالقداسة؟. فيما مضى من الأيام والسنوات، بقي القليل من الأرواح التي أجدها ملاذاً ومسكناً، كأنّنا فيغرفة واحدة، أتعب فأنام على مخدة هذا، أبرد فأتغطى بلحاف ذلك، تقتلني الوحدة فأعانق دبّ البين وأنام على سريرحارس الليل.
هذا صديقي سعيد بودبوز، لن أحدثكم عنه كثيراً، فمن الصعب جداً أن أخبركم بكل ما يحتوي البحر من أصداف هادرةولآلئ جميلة، لكنها فيروزة إلهية واحدة تجمع بيني وبين ما تبقى من أصدقاء، المحبة الكونية الصافية. أحياناً تتشنّجعضلات المحاربين، فيتوجّب علينا معالجتها، وها أنا أعالج عضلة قلب صديقي المتشنّجة من مزاحي الثقيل، أتمنى أنانجح بذلك.
سعيد، أنت تعرف شخصياتي المتعددة يا عزيزي. أنا أفرح بك فقط لأخرجك من حزن ما لا أعرفه. أنا المهرّجة يا سعيد،حروفي ملطخة بالألوان، الألوان التي بتنا نشك إن كانت موجودة حقاً بعد كل هذا الرماد والسواد، أنا لا أشنّ حرباً علىصديقي سعيد، ربما أخاشنك… أحياناً لأفرح بعصبيتك كما تفرح أمٌّ بطفلها، لا أريد رأس قُطز، ولا رأس هولاكو، ولاتهمّني الإمبراطوريات ولا أرثها، من كان مثلي ما عاد يهمه سوى البحث عن قشة، أو خيط عنكبوت يبقيه متمسكاًبالحياة.
حين أقرأ لك، لا أرى سعيد بودبوز الذي يحاربه الجميع، بل أرى الضحكات والمناقشات الجميلة تهزّ الأقداح الثابتةوالأطباق والمقاعد كيفما تشاء. لا تحدثني عن الخيانة، لا داعي لذلك، ولا تسألني؛ ما هذه الألوان العجيبة التي تحاولينإخفاء وجهك بها؟. هذه صورة الواقع، ولا علاقة لك بالموضوع. دعك من الصور والتحاليل، هناك من البشر من يتركون أثراًفي القلب يشبه وتد الخيمة، تلك الخيمة التي أتسكّع تحتها منذ أعوام، وملعقة الغربة في يدي، وهم قلة وأنت تعرفهمأظنّ. كلما غاب واحد منهم، يجف الوتد وتفقد الخيمة ثباتها، وما إن أرى أحداً منهم عائداً، حتى يشتد الوتد ويخضرّ، بلوتنموا براعمه ويفتح وتكبر وتمتد وتعرش كدالية العنب، فيصبح الوتد هو الخيمة التي تضع ثمارها في جيوب الجميع.
أتذكر يا سعيد؟.. كلما رأيتُ حاجبيك يستقيمان بنعومة وأناقة، كنت أضحك، فتغضب وتعتقد أنني أسخر منك. أنا لاأسخر إلا من نفسي. سأغضبك الآن، انظروا: سأنزع عنه القشور ليغضب مني، لأفرح ثانية بكل ما يذهلني من ثقافتهومعرفته، ثم ما أن تلبث تحمرّ عيناك حتى أجفل كأنّ أسداً زأر في وجهي، فأهرب ركضاً واختبئ تحت تبرّجي وزينتيالطنانة، هذا لألفت نظرك أنّ كل ما تراه يغضبك مني ليس سوى مجرد خشخشات أساور وأجراس وحلي تفرح باللعبمعك، وتفرح بك بكل حالاتك فقط.
بعد كل ما عشته من آلام في حياتي، بات كلّ شيء يدعو للبهجة والانشراح والحب يا سعيد، أتصدق؟ بماذا تنصحني ياصديقي؟ سأتمدد على سكة قطار معانقة عمري كله لأمازح القطار كما أمازحك. ستضمن لي أنه يمرّ من فوق جسديبسلام، حتى أثبت لك صدق كلامي؟. أحيانا أتعب جداً من كل هذا، فأخلع ثياب المهرّجة، وأجمع خشاخيشي المبعثرة فيالأرض، لأعود من حيث أتيت وكأنني أضخم وأبشع عملاق رأيته في حياتك، ربما كينغ كونغ، أتعرفه؟ أو ديناصور يلفظ أنفاسه الأخيرة.
لم أترك خلفي غير الدم والدموع والغبار والألوان. هل تعتقد أنني أجيد التهريج كما أدّعي؟. ربما عليّ أن أدرسه أكثر بماأنك خذلتني بهذه القفزة البهلوانية في ذلك الشارع المقفر. ربما أصنع من ذكرياتي علكة ملوّنه أطرقع بها وأنفخهاكالمنطاد وأطير كي أمطر فوقك ألواني التعيسة لتفهم إنني لا أنتمي لفصيلة اللبائن ولا الزواحف. اعتبرني نفسك،تتحدث معك من خلال المرآة، نفسك التي تسخر منك ومنها دائما لتجفف عرقك فقط. التقطها من أي مكان وكأنها وردةمشكوكة بدبوس شكها بقميصك لتذكرك بأختك المجنونة دينوكا التي نهبها الماضي والحاضر والمستقبل وكوّمها علىراحتيك كأنه قزم عقلة الأصبح المهرج، لا أكثر ولا أقل.
لا ترفع يدك وتضربني، فعندي تاريخ تاريخي في الضرب، لم يبق مني إلا هذه العقلة، لو ضربتها ربما ينشق الشقالسوري الإفريقي ويغرق فلسطين. أعطني جدول الضرب لأخبّئه لك في قبعتي. كل الجداول سأخبؤها لك، سأسرقها منك، لتركض صارخا غاضبا، وتسقط منك دقات قلبك فوق جبال الأطلس، فتغضب منك الجبال وتكشّر عن أنيابهاالجمجمية محاولة إفزاعك. سأكون أنا في جحر ما أختبئ كفأر، وأحاول أن لا أضحك بصوت مرتفع حتى لا تجدني. هلأكمل؟. تعبت يا سعيد، أين أنت يا صديقي؟ نحن شعب الحزن المختار، تباً لك، لغتنا واحدة، السيجارة والقداحة والقلم والورقة والدمعة والضحكة، كن بخير …..
—————————
*شاعرة فلسطينية