سلام المعادن بين السقوط او العبور …!
بقلم العميد منذر الايوبي*
لم يكن مشهد اللقاء العاصف امام وسائل الاعلام العالمية بين الرئيس الاميركي دونالد ترامب ونظيره الاوكراني فوليديمير زيلينسكي بحضور نائب الرئيس جيه دي فانس امرآ عرضيآ، بل سابقة شبه مسرحية قاربت في تفاصيلها نوع من العلاج الجامع للفنون وعلم النفس (السيكودراما) Psychodrama ابرزت في فعاليته تفريغ مشاعر وانفعالات اطراف اللقاء وفق منطق التنفيس الذاتي. فيما لم يكن العرض ولا السيناريو وليد اللحظة فالمرجح ان المَكمَن كان مُحضرآ في خلفياته الاساس تشابك العلاقة الشخصية المتوترة بين الرجلين وموقف الولايات المتحدة الاستراتيجي فيما خص الحرب الروسية – الاوكرانية..
كما ان جذور النظرة الدونيّة لزيلينسكي تعود الى عام 2019 إثر اتصال هاتفي من الرئيس ترامب لحثه على التحقيق في معلومات قذرة تتعلق ب هانتر بايدن نجل الرئيس الاميركي السابق ونشاطاته التجارية الغير قانونية في اوكرانيا، الا ان طلبه لم يلقَّ تجاوبآ ليتعمق التباغض سيما في ظل الدعم المادي والتسليحي الهائل الذي منحته ادارة الرئيس السابق بايدن على مدى سنوات ثلاث مضت..
سياقآ؛ بدا الرئيس الاوكراني مركز الفعل الدرامي بمعنى موضوع المشهد المُشتعل، فيما كان لاعضاء الوفد ومراسلي الوسائل الاعلامية موقع الجمهور المتفرج المُستحوذ دورآ فعالآ في مشاركة الرئيس الاوكراني خضوعه للإختبار السلبي، لتصطاد العدسات في آن صورة السفيرة الاوكرانية لدى واشنطن اوكسانا ماركاروفا تغطي وجهها لتحبس دموعها في ردة فعل لا ارادية فرضتها لحظات الشجار بين الرئيسين..! واذ بدا التواصل متوترآ منذ البداية تحول النقاش الآمن عن ابرام إتفاق المعادن الى هجوم قائم على هلوسة سياسية مبنية على مقايضة بين التزام كييف وقف اطلاق النار مقابل منحها ضمانات امنية اميركية لتصبح سلبية المواقف باب انهيار الصفقة والتوافق في آن..
من جهة اخرى؛ كرست الحادثة ظاهرة جديدة (الترامبية) من ظواهر علم الاجتماع السياسي والعلاقات الدولية، ليكون اللقاء الثلاثي عبثيآ في الشكل والمضمون، نوع من الخواء السياسي الثنائي المتبادل لإختلاف المنطق والمنطلقات والاهداف، برزت تداعياته الفورية بإلغاء المؤتمر الصحافي الثنائي الدارج بروتوكوليآ وليتحول الاستقبال الغير لائق بدايةً على مدخل البيت الابيض خروجآ مهينآ للضيف كما المستضيف.. وبصرف النظر عن تفاصيل النقاش والعبارات المتبادلة كما التعليقات سواء في مضامينها الساخرة او تلك العدائية فإن دقائق الاجتماع المعدودات اجتاحت وسائل الاعلام المتلفزة والمواقع الالكترونية ووسائل التواصل الاجتماعي مثيرة ردود فعل صاخبة او مستهجنة.
مما لا شك فيه ان التداعيات وفرص التسوية تقلصت، إذ لا قبول اميركي بمنح ضمانات امنية كما الموافقة اللاحقة على ضم اوكرانيا الى حلف شمال الاطلسي NATO.. بات الوضع المستجد بحاجة الى وسيط جديد يمارس دورآ ايجابيآ في تقريب وجهات النظر بين الوسيط المتحوِل طرفآ والحليف الاوكراني الذي استحال خصمآ … ليبرز تضامن اوروبي تَمَثَل بعد اجتماع الزعماء الاوروبيين ال 18 في لندن وعودآ بدعم مستعاض الى حد ما في اولوياته زيادة الانفاق الدفاعي (والاستعداد للأسوأ)..
فيما اعلن الرئيس ترامب عن وقف شحنات الاسلحة الى اوكرانيا معتبرآ زيلينسكي “يقامر بإشعال حرب عالمية ثالثة” غير مستعد لعملية السلام ويرغب الاستمرار في القتال، فيما كانت اولى ترجمات المُرتقب الاميركي اعلان وزير الدفاع وقف جميع الانشطة السيبرانية ضد موسكو..!
تزامنآ؛ يرى الاتحاد الاوروبي ان النوايا الجيو استراتيجية لموسكو لن تتوقف عند ضم المقاطعات الاربع؛ فيما اعلن رئيس المجلس أنطونيو كوستا عبر منصة X عن قمة أوروبية استثنائية ستعقد في بروكسل يوم 6 آذار القادم لمناقشة قضيتي اوكرانيا والامن الاوروبي. لكن المؤكد بما ستخرج عنه اعتماد ديبلوماسية مرنة تعيد ترتيب العلاقات مع الادارة الاميركية بعيدأ عن مواقف جامحة حفظآ للتحالف الغربي الاستراتيجي مانع تفكك الحلف الاطلسي ..!
قد يمكن اعتبار ترامب ترك الباب مواربآ لعودة زيلينسكي ان قرر التوقيع على إتفاقية المعادن (العناصر الارضية النادرة REE) ملمحآ لذلك امام مراسلي البيت الابيض، فيما يرى كثر من مراقبين ان الرئيس الاوكراني لم يعد مقبولآ لإدارة مرحلة قادمة تعيد ترتيب العلاقة مع واشنطن، فهو أحرق جسور التواصل المتزن معتبرآ انه غير مدين بإعتذار علني اولآ كما يجد الرئيس الاميركي ونائبه منحازين ان لم نقل لروسيا فقط فلمصالح الولايات المتحدة ثانيآ على حساب ثروات بلاده واقتصادها المنهك..!
تاليآ؛ تفرض الواقعية السياسية الاخذ بجزئيات المباحثات الاستراتيجية فالصفقة الاوكرانية-الاميركية اقتصادية في النهاية او شبه تجارية بمنظور الرئيس ترامب هدف إستعادة مليارات بلاده المهدورة على حرب عبثية.. بالمقابل فإن التوصل الى اتفاقية سلام بين موسكو وكييف تكون في حالة انعدام الوزن إن تمت بالرعاية الاوروبية فقط دون الثقل النوعي الاميركي.. فيما يُعتبر التفاهم الاميركي- الروسي على انهاء الحرب التفافآ تكتيكيآ يتوافق في أبعادِه مع رغبة واشنطن تخفيف وطأة الحلف الصيني-الروسي والتجمعات الاقتصادية الناشئة على الاقتصاد العالمي، ما يسمح للرئيس ترامب الانصراف الى الصفقة الثانية المتعلقة بفك الاشتباك الاقتصادي مع الصين..!
من الواضح ان الرئيس الاميركي انهى المرحلة السابقة من حكم الرئيس بايدن بإلتزاماتها العمياء؛ هو يعتمد (فلسفة الذرائع) او البراغماتية العملانية اذ في تصوره تعديل الخرائط الجيو سياسية وقلب التحالفات على مستوى العالم.. كما لا يعتبر التعددية القطبية تحديآ للولايات المتحدة بل من صنف حوار الاقوياء طالما يستطيع فرض رأيه على الخصوم.. مع الإشارة ان قرار الاتحاد الاوروبي مصادرة الاصول الروسية وإنفاق مردوداتها على الحرب الاوكرانية امر غير كافٍ، ليبقى السؤال في حال استمرار القطيعة متعلقآ بردة فعل الشعوب الأوروبية وقدرتها على تحمل زيادة الإنفاق العسكري التسليحي وربما نشر قوات اوروبية في اوكرانيا كذلك مشروع انشاء الجيش الاوروبي الموحد في ظل ازمة اقتصادية ومعيشية ضاغطة..!
ختامآ؛ وإزاء هذه الفوضى الاستراتيجية ارسل الكرملين رسالة مزدوجة الاولى لاقت الرئيس الاميركي في سعيه وقف الحرب عبر اعلان الرئيس الروسي فلاديمير بوتين (انه منفتح على محادثات السلام بشأن اوكرانيا) فيما الثانية موجهة للدول الاوروبية لكف اللعب بورقة اوكرانيا عنوانها “ان الرؤوس الحربية النووية لمنظومة صواريخ “اوريشنيك” تفارب مفاعيلها حرارة مساوية لسطح الشمس”..!
———————————
*عميد متقاعد، مختص في الشؤون الامنية والاستراتيجية