روايات فلسطينية:”مصائر: كونشرتو الهولوكوست والنكبة”

 

 

خاص “الدنيا نيوز” – دانيا يوسف*

الراوي:”خذوا بعضي وكل روحي إلى عكا يعتذران لها حارة حارة. خذوا ما تبقى مني وشيعوني حيث ولدت٬ مثلما ستشيعني لندن حيث أموت. يا أصدقائي وأحبتي٬ يوماً ما٬ لا أظنه بعيداً٬ سأموت. أريد أن أدفن هنا وأن أدفن هناك”. كلمات ساقها الكاتب الفلسطينى ربعي المدهون على لسان إيفانا٬ إحدى شخصيات روايته “مصائر: كونشرتو الهولوكوست والنكبة” التى توجت أخيرا بالجائزة العالمية للرواية العربية “بوكر” 2016 . وتعبر كلماتها بصدق وعمق عن معاناة فلسطيني الخارج الذى يحلم بالعودة أو حتى دفن بعض رفاته فى وطنه تعويضا عن عدم تحقيق هذا الحلم خلال الحياة٬ وفي نفس الوقت يجابه صعوبة التخلي عن منفاه الذى أُجبر على اللجوء له٬ وعاش فيه تجربة الشتات بما فيها من صراع مستمر خلال البحث عن الهوية والانتماء.
ربعي المدهون:” استخدمت في روايتي تقنية حركات الكونشرتو٬ والتي صنعت منها قالبا أروي من خلاله حكاياتي الأربع واعتمدت في كل حكاية على بطلين٬ يتحرك كٌل منهما في فضائه الخاص٬ ونثرت حولهما حكايات فرعية عدة٬ ليتحولا في حركة الكونشرتو التالية إلى شخصيتين ثانويتين٬ وتتحرك الأحداث بإيقاعها الموسيقي الذي كتبت حركاته٬ حتى يصل إلى الحركة الرابعة والأخيرة٬ ليكتمل الكونشرتو٬ وتجتمع الحكايات الأربع في اقترابها من أسئلة النكبة٬ والهولوكوست٬ وحق العودة. وقد استغرق العمل على الرواية أربع سنوات٬ وتطلب مني زيارة المدن الفلسطينية التي تناولتها في روايتي لأني لم أعش فيها بالأساس لفترة طويلة٬ بسبب تهجيري للخارج.”
الراوي: في الحركة الأولى من حركات الكونشرتو في “مصائر” تحب الأرمينية الفلسطينية إيفانا أردكيان، المقيمة في عكا القديمة، طبيبا بريطانيا في زمن الانتداب على فلسطين.
ربعي المدهون: نعم… وتتزوج ايفانا منه ويرحلان إلى لندن عشية نكبة 1948. وتنجب منه بنتا أسمتها جولي٬ وتوصي إيفانا قبل وفاتها بحرق جثتها ونثر نصف رمادها في نهر التايمز في لندن. أما النصف الآخر فطلبت أن يؤخذ في إناء ويوضع في بيت أهلها في عكا الذي يسكنه يهود إسرائيليون أو يوضع في بيت في القدس. في الحركة الأولى من الكونشرتو، أنتقد بشدة “وهم التعايش” بين الإسرائيليين والفلسطينيين. ويتبدى هذا في الخلاف بين جولي وزوجها وليد. فما تراه هي ممكنًا، أي التعايش يراه وليد مستحيلاً. وليد المجرب والمعايش لما يقع على الأرض، وجولي المتحمسة المنخدعة بـ”المشهد السياحي” للبلاد، وبالخطاب الآيديولوجي والدعائي المكثف للتعايش. فوليد يعتبر المنفى وطنا، إذا كان التعايش مع الإسرائيلي سيفرض عليه مواطنة منقوصة، ويعرضه للإذلال والتحقير والاستعباد.”
الراوي: وتأتي حركة الكونشرتو الثانية عن جنين دهمان إحدى فلسطينيي 1948 وكذلك قصتها مع زوجها الفلسطيني من الضفة الغربية الذي تتزوجه ويعيشان معا في يافا. ويصطدم زواجهما بالقوانين الإسرائيلية التي تجعل استمراره مستحيلا.
ربعي المدهون:” تعري “مصائر” كذلك وظيفة الاحتلال التي لا تتوقف عند طمس الهوية والسطو على الأرض، بل تجعل حياة الفلسطيني مستحيلة، وهو ما ينعكس في ممارسات وزارة الداخلية، التي ترفض تجديد تصريح الإقامة لباسم، زوج جنين، بطلة الحركة الثانية من الكونشرتو. جنين كانت تكتب رواية داخل الرواية الأم، بعنوان “فلسطيني تيس”، تتناول حكاية محمود دهمان الذي رفض الهجرة عام 1948 وأصر على البقاء في البلاد. وتروي، في الوقت عينه، وقائع حياتها هي مع باسم في يافا. جنين ترفض الرحيل عن يافا، حتى لو أدى ذلك إلى انفصالها عن باسم، وتقول له: “أني ما رح أزحزح من هان (هنا)، هان يافا بتاعتي، يافتي أني (…) خلّيك جنبي وانس الرحيل. إن ضليتك جنبي، ما رح يفرق بينّا أيالا (موظفة في الداخلية الإسرائيلية) ولا كل الحكومة اللي وظّفتها ووظّفت غيرها للتنكيد على عيشتنا وعيشة الفلسطينيين الباقيين في لبلاد.”
الراوي: في الحركة الثالثة تبزغ جولي، ابنة إيفانا، وزوجها وليد دهمان، حيث يضطران لتنفيذ وصية إيفانا، فيزوران البلاد. لكن الزيارة التي تمنياها سريعة للوفاء بالعهد، تتحول إلى سؤال كبير حول إمكانية الإقامة. كأن وصية إيفانا، على طريقة الحكايات الشعبية، كانت من أجل هدف آخر غير هدفها الأوّلي المعلن. وتختتم الحركة الرابعة بزيارة وليد لمتحف (يد فشيم) لضحايا المحرقة النازية٬ حيث يحدث تماه بين ضحايا الهولوكوست اليهود وبين ضحايا مجزرة دير ياسين الذين قتلتهم منظمات صهيونية. ويتناول المدهون أيضا في الرواية معاناة اليهود الناجين من الهولوكوست عبر شخصية يهودية هي أفيفا٬ والتي عايشت المحرقة وكانت أحد الناجين منها٬ لكن ألم الذكرى ما زال يؤرق منامها٬ ويحول حياتها لشقاء دائم. هذا ما جعل جارها الفلسطيني “باقي هناك” يتعاطف معها ويصادقها رغم أنها حاولت ذات مرة حرق بيته.
ربعي المدهون: “باقي هناك” الذي أبدى تعاطفه مع أفيفا كان يناديها ربيعة في
محاولة منه لتعريب اسمها كلما سمع صرخاتها عندما تطاردها كوابيس المحرقة في نومها فيقول: “مسكينة ربيعة٬ ما حدش سائل عنها أو عليها٬ لا جوزها ولا أولادها لثنين٬ والدولة بتبيع مأساتها ومأساة غيرها بالجملة بالمفرق”.
أما زوجته حسنية التى كانت تنادى أفيفا بـ «عفيفة» فترد عليه ملخصة المأساة الإنسانية التى يعيشها الفلسطينيون من وجهة نظرها “عفيفة زارها كابوس ألماني مستعجل صحاها من عز النوم.. الله يتوب علينا ويفرجها٬ الألمان حرقوا قلوب اليهود٬ واليهود بيحرقوا قلوبنا..إحنا إيش دخلنا٬ االله يحرق قلوب الجهتين”.
الراوي: يرى الناقد الفلسطيني فيصل دراج أن ربعي المدهون وصل في هذه الرواية إلى ما اسماه “الرواية العربية الشاملة”٬ معتبرا أنها تستكمل مسيرة الرواية الفلسطينية وتستفيد من الثلاثي الفلسطيني جبرا إبراهيم جبرا وغسان كنفاني واميل حبيبي٬ مضيفا أن المدهون في روايته “لا يختصر اليهودي في المنظور التعددي إلى بندقية وطلقات٬ فهو يراوح بين اللطف والنظر العنصري الجاهز ويظل٬ في الحالين٬ المخلوق الذي أنزل بالفلسطينيين عقاباً أقرب إلى
اللعنة٬ ونثرهم على أصقاع العالم المختلفة. ولعل تعددية النظر هي التي استحضرت كلمة “الهولوكوست”٬ الموجود على عنوان الرواية٬ وواجهتها بمجزرة دير ياسين٬ كما لو كان اليهودي٬ مهما كانت صفاته٬” نازيا
ألمانيا” في صيغة أخرى٬لا مكان في ذاكرته للوجع الفلسطيني٬ ولا مكان في الذاكرة الفلسطينية “لمحرقة” ليست بلا جواب٬ في فضاء التاريخ”.