جمعيات ومنظمات حقوقية تتضامن مع القاضية عون: أوّل من كشفت حقيقة قروض مصرف لبنان بقيمة 8,3 مليار دولار لمصارف حوّلتها إلى الخارج بعد 17 تشرين الأول 2019
أصدر كل من “المفكرة القانونية” و”مبادرة سياسات الغد” و”الجمعية اللبنانية لحقوق المكلّفين” بيانا مشتركاً اليوم تناول الموقف من قرار صرف النائبة العامة في جبل لبنان القاضية غادة عون من الخدمة، جاء فيه:
“صدر في تاريخ 4 أيار 2023 قرار تأديبي بصرف النائبة العامة في جبل لبنان غادة عون من الخدمة.
لم يتسنّ لنا الاطلاع على القرار أو حيثياته، إلّا أنّ الظّروف التي نمرّ فيها وقسوة العقوبة كلّها تثير لدينا علامات استفهام مقلقة، أبرزها الآتية:
1. بإمكان أي مراقب جدّي وعادل أن يسجّل للقاضية عون أنها باشرت بحكم مسؤوليّتها في النيابة العامة ملاحقة قضايا فساد مالي كبرى. يسجل لها تحديدًا أنّها أوّل من طبّقت قانون الإثراء غير المشروع بعد 66 سنة من إقراره في 1953، وأنّها أوّل من اتخذت إجراءات لتطبيق قانون رفع السرّية المصرفية الصادر في 28/10/2022 في اتّجاه جلاء حقيقة القروض التي منحها مصرف لبنان إلى عدد من المصارف وحوّلت قيمتها إلى الخارج بعد 17 تشرين الأول 2019 وقد بلغت قيمتها 8.3 مليار د.أ أي ما يقارب قيمة الاحتياطي المتبقي راهنًا لدى مصرف لبنان. كما يسجّل لها أنها وضعت بفعل تحقيقاتها حدًّا لصفقة الفيول المغشوش (سوناطراك) التي استمرّت طوال 15 سنة بشروط مجحفة للدولة؛ ناهيك عن التحقيقات الأخرى المتعلقة بالمصرف المركزي وبعض المسؤولين فيه والتي أظهرت خيوطًا مخفيّة ومخالفات خطرة استفادت منها تحقيقات أخرى محلية ودولية ملازمة. كما أنّها بمعيّة المحامين العامين في دائرتها القاضيين نازك الخطيب وسامر ليشع تمكنوا من الكشف عن فساد متماد في عدد من إدارات الدولة، منها النافعة والسجل العقاري في جبل لبنان وإدارة المنشآت ووزارة النفط والطاقة. وعليه، وبمعزل عن المخالفات التي قد تُعزى إليها، فإنّه من البيّن أنّها النائبة العامة التي أنجزت على صعيد مكافحة الفساد ما لم تنجزه أي نيابة عامة أخرى، والأهم أنها النيابة العامة التي أقدمت في دعاوى انكفأ عنها آخرون.
2. بإمكان أي مراقب جدّي وعادل أن يسجّل أن القاضية عون تعرّضت لحملات إعلامية منظّمة على خلفية فتحها تحقيقات قضائية، وذلك في سياق الدفاع عن الشخصيات والمسؤولين التي تحوم حولهم شبهات جدية. وقد بقيت هذه الحملات في أغلبها من دون أي ردّ من قبل مجلس القضاء الأعلى، علمًا أنّ أولى صلاحياته السهر على استقلالية القضاء وحسن أداء المرفق القضائي. هذا مع العلم أنّ هذه الحملات ترافقت مع مواقف حكومية أهمّها المواقف الصادرة عن رئاسة حكومة تصريف الأعمال التي لم تجد حرجًا في إدراج التدابير المتخذة من القاضية عون ضمن الفوضى القضائية أو الشطط القضائي، وفي مطالبة رؤساء الهيئات القضائية باتخاذ تدابير ضرورية لكفّ يدها.
3. بإمكان أي مراقب جدّي وعادل أن يسجّل بقلق كبير بروز ممارسات تخوّل أي مدعى عليه وقف أي تحقيق ضده لأجل غير مسمّى، وهي الممارسات التي من شأنها أن تمكّن كلّ نافذ من الإفلات من العقاب بشكل كامل. هذه الممارسات تمثلت ليس فقط في إغراقهم في دعاوى الرد غالبها تعسفي، بل بشكل خاصّ في تقديم دعاوى مخاصمة ضد الدولة على خلفية أعمالهم، وكلّها دعاوى تؤدي فور إبلاغها إلى القضاة المعنيين إلى كفّ يدهم عنها بصورة تلقائية. وقد بلغ عبث هذه الممارسات حدّه الأقصى بعدما تمّ تعطيل الهيئة العامة لمحكمة التمييز بفعل الامتناع عن إصدار مرسوم تعيين غالبية أعضائها سندًا للمادة 751 من قانون أصول المحاكمات المدنية، على نحو أدّى إلى تأبيد كفّ يد القضاة المطعون فيهم أمامها. وإذ أدى هذا الأمر إلى تأبيد تعطيل العدالة في أهم القضايا ومنها قضية تفجير المرفأ والقضايا المصرفية في ظل تقاعس السلطتين التشريعية والتنفيذية عن إيجاد حلّ لذلك، فإنّ أغلب القضاة المتمسّكين بوظائفهم اضطرّوا لاعتماد اجتهادات أو توجهات تسمح لهم بالمحافظة على صلاحياتهم. هذا ما فعله المحقق العدلي طارق بيطار بموجب قراره الصادر في 23 كانون الثاني 2023. وهذا أبرز ما يؤخذ على القاضية عون التي استمرّت في العديد من تحقيقاتها بحجّة عدم جواز تطبيق المادة 751 المذكورة في ظلّ تعطيل الهيئة العامة لمحكمة التمييز.
تبعًا لكلّ ما تقدم، وإذ نسجّل أنّ إصدار الحكم التأديبي بصرف القاضية عون يشكّل بمعزل عن تفاصيله وحيثياته ومدى تناسبه مع خطورة الأفعال المعزوّة لها، رسالة بليغة للقضاة كافة بوجوب الانكفاء الذاتي عن ملاحقة الأشخاص الأقوى اجتماعيًا وتاليًا عن مكافحة أخطر أشكال الفساد، وبخاصّة أنّ القضاة الأكثر انخراطًا في “ضبضبة” الملفات وتحصين المشتبه بهم من المساءلة يبقون بمنأى عن أي محاسبة،
وإذ نسجّل أنّ هذه الرسالة بإرغام القضاة على الانكفاء تأتي في موازاة استشراس من السلطة السياسية في اقتحام المجال القضائي برمّته بهدف استتباعه وتعطيله، كما تأتي في أكثر الأوقات احتياجًا إلى إعمال المحاسبة والمساءلة تمهيدًا لاسترداد الأموال المنهوبة الخاصّة كما العامة،
وإذ نذكر مجددًا أنّ قانون السرية المصرفية رقم 306/2022 الذي أقرّه مجلس النواب بعد مخاضٍ عسير وبضغط من صندوق النقد الدولي والمجتمع المدني قد أعطى المراجع القضائية المختصّة حق ولوج مباشر للمعلومات في الدعاوى المتعلقة بجرائم الفساد والجرائم الواقعة على الأموال ومنها جرائم تبييض الأموال وتمويل الإرهاب ودعاوى الإثراء غير المشروع وذلك، بمجرد طلبها من المصارف من دون أي إمكانية لها أن تتذرع بسر المهنة أو بسرية المصارف ومن دون المرور بأي مرجع إداري أو قضائي. ولعلّ هذه الصلاحية التي تمكّن من إجراء تحقيقات جدية وفعالة لكشف الجرائم والمخالفات وتحديد المسؤوليات واسترداد ما هو مكتسب بصورة غير شرعية والتعويض على المتضررين هو ما أخاف أصحاب المصالح من بقاء القاضِية عون في مركز رئيسي وحساس كالتي تشغله راهنًا.
وإذ نستهجن من هذه الزوايا كافة مآل الحكم التأديبي بحق القاضية عون وعدم تناسب مآله مع الأفعال المنسوبة إليها وأبعاده،
فإننا : أولًا، ندعو مجلس القضاء الأعلى وهيئة التفتيش القضائي إلى تحمّل مسؤوليّتهما التاريخية في الحفاظ على استقلالية القضاة والدور المنتظر منهم، وتحديدًا في تشجيع القضاة المنخرطين في مكافحة الفساد مقابل محاسبة القضاة الذين يتخلّون عن مسؤولياتهم في هذا المضمار. فبوصلة تقييم أو محاسبة القضاة يجب أن تكون اليوم بالدرجة الأولى مدى استعداد القاضي على القيام بدوره المذكور لمصلحة الشعب،
ثانيًا، ندعو كلّ القوى الديمقراطية والهيئات الأكثر تمثيلًا إلى أوسع التفاف ممكن لضمان بيئة سليمة لقيام القضاة بوظائفهم في محاسبة الجرائم المالية بعيدًا عن التخويف والتعسّف والتدخل والأهم التعطيل، مع ما يفترضه ذلك من إقرار اقتراحي قانون استقلالية القضاء العدلي والإداري وفق المعايير الدولية واقتراحيْ قانوني تعديل أصول المحاكمات المدنية في اتجاه وضع حدّ للعبث المتمثل في تمكين كل مدعى عليه من الإفلات من العقاب.
ثالثًا، نتضامن كلّيًا مع كلّ هيئة قضائية أو قاض يعمل للدفاع عن حقوق المجتمع وحمايتها في هذه المرحلة، في مواجهة حملات التنمّر والحملات الإعلامية أو أي أمر من شأنه تعطيل عملها أو إعاقته. ونخص بالذكر هنا هيئة القضايا التي تخوض معركة بالغة الأهمية والدقة في الدفاع عن مصالح الدولة والمجتمع”.