“الدنيا نيوز” – دانيا يوسف*
بعدما تجاذبتها النظريات لزمن طويل من دون التوصل إلى فهم حقيقتها بشكل دقيق، تشهد تعابير الوجه في الوقت الحالي مزيداً من الدراسات العلمية الهادفة إلى فهمها بشكل أعمق، ومعرفة ما إذا كانت بيولوجية بحتة أم مكتسبة أم أنها مزيج من الاثنين. ولهذا الفهم أهميته الخاصة في العصر الرقمي. ويمكن أن تتضاعف هذه الأهمية إذا ما كانت هذه التعابير متغيِّرة بتغير البيئات الثقافية.. إذ ستترتَّب على ذلك عواقب وخيمة في مسألة قياسها لتعلُّم الآلة العميق وصناعة الروبوتات.
جميع العضلات في أجسامنا مدعمة بالأعصاب المتصلة من كافة أنحاء الجسم بالنخاع الشوكي والدماغ. وهذا الاتصال العصبي هو ثنائي الاتجاه، أي إن العصب يتسبب في تقلصات العضلات بناءً على إشارات الدماغ ويقوم في الوقت نفسه بإرسال معلومات عن حالة العضلات إلى الدماغ.
اتَّسقت تقليدياً وجهة نظر العلماء مع رؤى الفنَّانين في أن البشر قد طوَّروا أنماطاً معيَّنة من التعبير غير اللفظي، ومن بينها تعابير الوجه. وتم التمييز بين التعبير اللفظي الذي يستخدم الكلمات حسب الرغبة، وبين التعبير غير اللفظي الذي هو أكثر بدائية و”أعصى على التزييف” على حد قول الفيلسوف الفرنسي جان جاك روسو. ولم يشذ عن شبه الإجماع هذا إلَّا بعض الأعمال الفنية، منها على سبيل المثال عملان فنيان كبيران، استشرفا النتائج التي تتوصل إليها أبحاث علمية حديثة.
العمل الأول هو لوحة الموناليزا التي رسمها ليوناردو دافينشي عام 1503م والتي لا تزال حتى اليوم تثير تفسيرات متناقضة لتعابير وجهها. وقد أكدت أبحاث مؤخراً قام بها علماء الأعصاب والدماغ من جامعة سينسيناتي، مستخدمين تقنيات وقياسات متطوِّرة، أن ابتسامتها ربما تكون “مزيَّفة”.
بعد ذلك بمئة سنة، وفي مسرحية “ماكبيث” لوليم شيكسبير عام 1606م – يعبِّر الملك دانكن عن ذهوله من خداع كاودر له، إذ لم تكن تعابير الخيانة تظهر على وجهه، فيقول: “لا يوجد علم يكتشف على الوجه ما في العقل”.
وبالفعل، لم يُجمع العلماء حتى اليوم على وجهة نظر أو نظرية واحدة لفهم تعابير الوجه. فالإجماع القديم بدَّدته أبحاث حديثة خلصت إلى أن تعابير الوجه متأثرة بنوايانا وتوقُّعاتنا، ومبنية اجتماعياً، ومتغيرة عبر الثقافات.
لكن وجهة نظر علماء آخرين تقول إن نتائج هذه الدراسات مبنية على تحيُّز ناتج عن تأثير الثقافة الغربية في كافة أنحاء العالم، حتى بين تلك الشعوب المنعزلة، حيث أجريت الأبحاث. فقد أظهرت أبحاث حديثة حول منحوتات وتماثيل ونقوش قديمة من الشعوب الأمريكية الأصلية منذ 3500 سنة، والتي لم يصلها الاستعمار الغربي في ذلك الوقت، أن هناك عدداً من تعابير الوجه، على الأقل، تتخطى الزمن والثقافات.
يتضمَّن وجه الإنسان أكثر من 40 عضلة مستقلة هيكلياً ووظيفياً، بحيث يمكن تشغيل كل منها بشكل مستقل عن البعض الآخر.
الوجه البشري…أعصابه وعضلاته
وجه الإنسان هو جزء معقَّد ومتميِّز للغاية من جسمه. وفي الواقع، إنه أحد أكثر أنظمة الإشارات المتاحة تعقيداً لدينا؛ فهو يتضمَّن أكثر من 40 عضلة مستقلة هيكلياً ووظيفياً، بحيث يمكن تشغيل كل منها بشكل مستقل عن البعض الآخر؛ وتشكِّل أحد أقوى مؤشرات العواطف. عندما نضحك أو نبكي، فإننا نعرض عواطفنا، مما يسمح للآخرين بإلقاء نظرة خاطفة على أذهاننا أثناء “قراءة” وجوهنا بناءً على التغييرات في مكوّنات الوجه الرئيسة، مثل: العينين والحاجبين والجفنين والأنف والشفتين.
والجهاز العضلي للوجه هو المكان الوحيد في أجسامنا، حيث ترتبط العضلات إما بعظمة واحدة ونسيج من أنسجة الوجه (ترتبط العضلات الأخرى في جسم الإنسان بعظمتين)، أو نسيج فقط مثل العضلات المحيطة بالعينين أو الشفتين. وهذا ما يجعل نشاط عضلات الوجه متخصصاً إلى درجة عالية في التعبير. فهو يسمح لنا بمشاركة المعلومات الاجتماعية مع الآخرين والتواصل بشكلٍ لفظي وغير لفظي أيضاً في الوقت نفسه.
إن جميع العضلات في أجسامنا مدعمة بالأعصاب المتصلة من كافة أنحاء الجسم بالنخاع الشوكي والدماغ. وهذا الاتصال العصبي هو ثنائي الاتجاه، أي إن العصب يتسبَّب في تقلصات العضلات بناءً على إشارات الدماغ، ويقوم في الوقت نفسه بإرسال معلومات عن حالة العضلات إلى الدماغ.
لكن عضلات الوجه يحرِّكها العصب الواحد نفسه، باستثناء جفن العين الأعلى الذي يحركه العصب القحفي الثالث. فتعابير الوجه إذن هي حركات العضلات العديدة الذي يحرِّكها عصب الوجه، التي تحرك بدورها جلد الوجه، وهي متشابكة بشكل وثيق مع حالة المشاعر في الدماغ.
تتخطى الزمن والثقافات
الفكرة القائلة إن العواطف أساسية وغريزية ومعبَّر عنها في وجوهنا هي من الأفكار المتأصلة بعمق في الثقافة الغربية. فقد وضع الإغريق القدماء “العواطف” في مواجهة العقل. وفي القرن السابع عشر، وضع الفيلسوف رينيه ديكارت ستَّ عواطف أساسية يمكن أن تتداخل مع الفكر العقلاني. ثم قام على هذا الأساس الفنان تشارل لو برون، في الفترة الزمنية نفسها بربطها بالوجه، واضعاً تكوين الوجه الصحيح تشريحياً والمناسب لكل عاطفة في قائمة ديكارت.
وفي زمن لاحق، افترض علماء النفس التطوري أن تكوينات الوجه المعنية تطوَّرت كتعبيرات خاصة بالعاطفة لتتلاءم مع المواقف التي واجهها أسلافنا في السافانا الإفريقية خلال العصر الجليدي، عندما كانوا لا يزالون في عصر الصيد وجمع الثمار. فعلى سبيل المثال، يُزعم أن تكوين الوجه الذي يلهث بعيون واسعة، والذي يُعتقد أنه يعبِّر عن الخوف عالمياً، قد تطوَّر لتعزيز الإعلان عن اكتشاف التهديدات، بما في ذلك اكتشاف الحيوانات المفترسة الخطرة. وبالمثل، يُزعم أن تكوين تجاعيد الأنف، الذي يُعتقد أنه يعبِّر عن الاشمئزاز عالمياً، قد تطوَّر للحد من التعرُّض للمواد الضارة، مثل الطعام الملوث أو الذي أفسدته الحرارة.
وفي الستينيات والسبعينيات من القرن العشرين جال الباحث الأمريكي بول إيكمان، من جامعة كاليفورنيا على بلدان مختلفة حول العالم، طالباً من المشاركين مطابقة صور تعبيرات الوجه مع المشاعر أو السيناريوهات العاطفية. ويبدو أن دراساته العديدة تشير إلى أن بعض التعبيرات والمشاعر المرتبطة بها تم التعرف عليها من قِبَل الناس من جميع الثقافات. (كانت هذه “المشاعر الأساسية” هي السعادة، والمفاجأة، والاشمئزاز، والخوف، والحزن، والغضب). واليوم، أصبح إرث نظريات إيكمان في كل مكان: بدءاً من ملصقات “المشاعر” التي نراها في رياض الأطفال مع رسومها الكاريكاتورية للابتسامات والعبوس، إلى البرامج المصممة من قِبل الحكومات للتعرف على الإرهابيين أو المجرمين المحتملين.
وجوهنا هي كالإشارة على الطريق. نستخدمها لتوجيه السير. نحن ننظِّم بها مسار التفاعل الاجتماعي.
تطوَّرت عبر الزمن
بدأ شبه الإجماع التقليدي هذا يتعرَّض لتحديات جدية في الأونة الأخيرة. فإحدى النظريات الناشئة، والمدعومة بشكل متزايد، ترى أن تعابير الوجه لا تعكس قراءات موثوقة لمشاعرنا ولحالاتنا العاطفية، بل إنها تُظهر نوايانا وأهدافنا الاجتماعية.
فعلى سبيل المثال، ظهرت الاختلافات في تعبير الوجه عن المشاعر نفسها بيننا اليوم عند مقارنة تعبيرات الوجه في الثقافة الغربية وتعبيرات الوجه الأخرى. ففي دراسة نشرتها مجلة PNAS في أيار/مايو 2012، وقامت بها مجموعة من الباحثين بقيادة راشايل جاك، استخدموا عدَّة تقنيات لغوية واجتماعية وحسابية متطوِّرة، تبيِّن أن الطريقة التي نفسِّر بها السعادة والمفاجأة والخوف والاشمئزاز والغضب والحزن، التي طالما اعتبرت ثابتة، في وجوه الآخرين قد تختلف اختلافاً كبيراً عبر الثقافات اليوم. وهذا ما قد يشير إلى أن تعابير الوجه ليست مشفرة في جيناتنا.
وفي عام 2017 أجرى عدد من الباحثين تحليلاً لنحو 50 دراسة ذات صلة، صدرت في كتاب عنوانه “علم تعبير الوجه”، من منشورات جامعة أكسفورد، ووجدوا أن أقلية فقط من وجوه الناس تعكس مشاعرهم الحقيقية. ووفقاً للمؤلِّف المشارك رينر ريسينزين، كان هناك استثناء واحد قوي: التسلية التي تؤدِّي دائماً إلى الابتسام أو الضحك. ويتردَّد ريسينزين في تفسير ما تعنيه هذه النتائج. فيقول ممازحاً: “أنا واحد من هؤلاء العلماء القدامى الذين يقومون فقط بالبحث”. ومع ذلك، فهو يشعر أن هناك أسباباً تطورية جيدة تمنعنا من الكشف عن حالتنا الداخلية لأشخاص آخرين: “هذا يضعنا في وضع غير مُؤاتٍ”.
——————-
* مديرة القسم الثقافي في موقع “الدنيا نيوز”.