بدر شاكر السيّـاب… ثائرٌ حطَّمَ موازين الشعر وكسر رتابته …ونظم أنشودة المطر

 

“الدنيا نيوز” – دانيا يوسف*

يقف بدر شاكر السيّاب من الشعر الحديث موقف الثائر الذي يعمل على قلب الأوضاع الشعريّة, ونقل الشعر من ذهنية التقليد وتقديس الأنظمة القديمة إلى ذهنية الحياة الجديدة التي تنطق بلغة جيدة، وطريقة جديدة، وتعبّر عن حقائق جديدة. وساعدَ السيّاب في عمله جرأة في طبيعته، وتحرُّك اجتماعيّ وسياسيّ ثوري هز العالم الشرقيّ هزًّا عنيفًا.
يُعد الشاعر بدر شاكر السياب واحدًا من الشعراء المشهورين في الوطن العربي في القرن العشرين، كما يُعد أحد مؤسسي الشعر الحرّ في الأدب العربي.
ولد الشاعر بدر شاكر السياب في 25 كانون الثاني/ديسمبر 1926 في قرية جيكور التي أغرم بها وهام أحدهما الآخر… وهي من قري قضاء (أبي الخصيب) في محافظة البصرة واسمها مأخوذ في الأصل من الفارسية من لفظة (جوي كور) أي (الجدول الأعلى).
فَقَد السياب والدته عندما كان عمره ست سنوات، وكان لوفاة أمّه أعمق الأثر في حياته. وبعد إذ أتمّ دروسه الابتدائية في مدرسة (باب سليمان) التي كانت تتكون من أربعة صفوف وتبعد حوالي 10 كيلو متر عن منزله بعد انتهاء الصف الرابع انتقل إلى مدرسة (المحمودية) وتبعد عن (باب سليمان) 3 كيلومترات اضافية وبعدها انتقل إلى مدينة البصرة وتابع فيها دروسه الثانوية، ثم انتقل إلى العاصمة بغداد حيث التحق بدار المعلمين العالية، واختار لنفسه تخصص اللغة العربيّة وقضى سنتين في تعلم الأدب العربي تتبّع ذوق وتحليل واستقصاء؛ ولكن تغيّر في سنة 1945 من الأدب إلى متخصص في اللغة الإنكليزية. لقد تخرّج السيّاب من الجامعة عام 1948، وفي تلك الأثناء عُرف بميوله السياسية اليسارية كما عُرف بنضاله الوطني في سبيل تحرير العراق من الاحتلال الإنكليزي، وفي سبيل القضية الفلسطينية. وبعد أن أُسندت إليه وظيفة التعليم للغة الإنكليزية في الرمادي، وبعد أن مارسها عدة أشهر فُصل منها بسبب ميوله السياسية وأودع السجن. ولمّا رُدّت إليه حريته اتجه نحو العمل الحر ما بين البصرة وبغداد، كما عمل في بعض الوظائف الثانوية، وفي سنة 1952 اضطُر إلى مغادرة بلاده والتوّجه إلى إيران فإلى الكويت، وذلك عقب مظاهرات اشترك فيها.
وفي سنة 1954 رجع الشاعر إلى بغداد ووّزع وقته ما بين العمل الصحافي والوظيفة في مديرية الاستيراد والتصدير.
ولكن الذي يظهر من خلال سيرة السيّاب أنه لم يأنس ولم يتكيّف في المدينة (بغداد) بل ظل يحنّ إلى قريته التي ولد فيها (جيكور)، وقد أشار إلى ذلك الأديب الفلسطيني إحسان عباس، حيث قال: “وأما السياب فإنه لم يستطع أن ينسجم مع بغداد، لأنها عجزت أن تمحو صورة جيكور أو تطمسها في نفسه (لأسباب متعددة) فالصراع بين جيكور وبغداد، جعل الصدمة مزمنة، حتى حين رجع السياب إلى جيكور، ووجدها قد تغيرت لم يستطع أن يحب بغداد أو أن يأنس إلى بيئتها، وظل يحلم أن جيكور لا بد أن تبعث من خلال ذاته”.
كان السيّاب شاعرًا فذًّا اصطبغ شعره بصبغة الأطوار التي تقلّبت فيها حياته المعاشيّة والاجتماعية والفكريّة. عصَره الألم في شبابه، وشعر بالغربة القاسية وهو في بيت أبيه، كما شعر بها وهو في بيئته؛ ولم يجد قلبه الشديد الحساسيّة مَن يخرجه من أتون آلامه، ولم يجد في طريقه فتاة أحلامه، تلك الفتاة التي يسكب روحه في روحها، فتنتشله من أحلامه وأوهامه، وتُغرقه في عالمٍ من الحنان والرقة؛ ورافق ذلك كله تتبّع فكريّ وعاطفي لحركة الرومنطيقية التي شاعت في أوروبا، والتي ازدهرت في بعض الأقطار العربيّة، ولاسيّما لبنان المقيم والمهاجر، فاندفع في تلك الحركة، وراح في قصائده الأولى يداعب شجونه في جوّ من الضبابية اليائسة، وفي انحطام لا يخلو من نبضات ثورية حالمة، وراح يناجي الموت، وينظر إلى مصيره نظرة اللوعة، ويهوي في لجة عالمه المنهار:
لا تزيديه لـوعــة فـهـو يلــقــاك
لـينسى لـديـك بـعـض اكـتـئابـه
قــربي مقلتيك من قلبي الذاوي
تري في الشحوب سر انتحابه
وانظري في غضونه صرخة اليأس
وأشــبــاح غــابر مـن شــبـابه
لهفة تـسـرق الخطى بين جـفنيه
وحــلــم يمــوت في أهــــدابـــه
تلك كانت المرحلة الأولى من مراحل شعر السيّاب؛ أما المرحلة الثانية فهي مرحلة الخروج من الذاتية الفرديّة إلى الذاتية الاجتماعية، وقد انطلق الشاعر، في نزعته الاشتراكيّة ورومنطيقيّته الحادة، يتحدث عن آلام المجتمع وأوصاب الشعب، ويُهاجم الظلم في أصحابه، ويُصوّره في (حفار القبور) ماردًا جشعًا يرقص على جثث الموتى ويتغذى جشعه بأرواحهم ويقول:
واخـيـبـتــاه! ألن أعـيـش بغير مــوت الآخــرين؟
والطيبات: من الرغيف، إلى النساء، إلى البنين
هـي مـنـة المـوتى عليّ. فـكـيف أشـفـق بالأنام!؟
فـلـتـمـطرنهم الـقـذائــف بالـحـديد وبالـضـرام
وبعد هذه المرحلة نرى السيّاب ينزع نزعة (الواقعية الجديدة) – على حدّ قوله – ويعمل على تحليل المجتمع تحليلًا عميقًا، وعلى تصويره تصويرًا واقعيًّا فيه من الحقائق الحياتية ما يستطيع الشاعر إدراكه بنفاذ بصره وقوة انطباعيته. وقد امتاز بدر في هذه الحقبة من حياته بنزعته القوميّة العربيّة، وذلك بعد تركه للحزب الشيوعيّ، وقد بدأت بوادر ذلك في رسائله التي كان يكتبها لأصدقائه.
السياب في شعره
يقف السيّاب من الشعر الحديث موقف الثائر الذي يعمل على قلب الأوضاع الشعريّة, ونقل الشعر من ذهنية التقليد وتقديس الأنظمة القديمة إلى ذهنية الحياة الجديدة، التي تنطق بلغة جيدة، وطريقة جديدة، وتعبّر عن حقائق جديدة. وساعدَ السيّاب في عمله جرأة في طبيعته، وتحرُّك اجتماعيّ وسياسيّ ثوري هز العالم الشرقيّ هزًّا عنيفًا، ثم انفتاح على أدب الغرب وأساليب الغرب في التفكير والتعبير. وقد أدخل السيّاب على الشعر العربي ثورته التي قام بها في مجتمعه، فحوّله من نظام العروض الخليلي إلى نظام الحرية، وأخرج الأوزان القديمة من قواعدها المألوفة إلى أوزان أملَتْها عليه معانيه ونبضات وجدانه، وتصرف بالتفاعيل والقوافي وفاقًا للمزاجيّة الشعريّة التي يوحي بها مقتضى الحال، هذا فضلاً عن التيارات الفكرية والتحليلات العميقة التي زخر بها شعره وانساق في مجاريها انسياقًا فُراتيًّا يمتدّ امتدادًا حافلاً بالغنى، ومتأججًا بتأجّج العاطفة والحياة والخيال التي ينطلق منها.
تروعك في شعر السيّاب تلك الثروة الفكرية، وتلك الغزارة المعنوية، وذلك التلاحق الهائج المائج في تدفّقه الذي يجمع الصّخب إلى التغلغل في طوايا النفس؛ وذلك العصف الفكري والعاطفي المرهق، ثم تلك الواقعية اللفظية الضارية، والإلحاح على المشهد المثير واللفظة المعبّرة عن الثورة الحياتية المتفجرة، ثم أخيرًا تلك الرمزية التصويرية تستعين بالميثولوجيا والإشارات التاريخيّة، التي تزيد الكلام حدّةً وبُعد آفاق.
وهكذا فالسيّاب شاعر التحرُّر وشاعر الحياة والعنفوان.
ويمثل شعر السياب أهم الاتجاهات الشعرية التي عرفها عصره، وكانت له حصيلة واسعة من الموروث الشعري الكلاسيكي، بالإضافة إلى ترجماته لمختارات من الشعر العالمي إلى العربية.
بدأ بدر كلاسيكيًّا، ثم تأثّر برومانسية أبي شبكة من لبنان وبودلير من فرنسا، لكن إضافاته الشعرية وإنجازاته بدأت بشعره الواقعي، ولاسيما قصائد حفار القبور؛ المومس العمياء؛ الأسلحة والأطفال. وشعر بدر التّموزي أبدع ما ترك من آثار، لاسيما ديوان أنشودةّ المطّر، ففيه نماذج كثيرة للقصيدة العربية الحديثة، التي توفر فيها شكل فني حديث متميّز، ومضمون اجتماعي هادف في آن واحد، ومن أشهرها أنشودة المطر، ومدينة السندباد؛ والنهر والموت؛ وبروس في بابل؛ وقصيدة المسيح. وتعد قصيدتاه: أنشودة المطر؛ وغريب على الخليج صوتًا مميزًا في الشعر العربي الحديث، وفيهما يظهر صوته الشعري المصفى وقدرته الإبداعية العميقة. يقول مطلع أنشودة المطر:
عـيناك غابتا نخيل ســاعـة السحـر
أو شُرْفَتَان راح ينأى عنهما القمـر
عـينـاك حين تبسمان تـورق الكروم
وترقـص الأضواء كالأقمار في نـهـر
يَرُجّه المجذّاف وَهْنًا سـاعةَ السحر
وتبلغ القصيدة ذورتها في قوله:
أتـعـلـمين أي حــزن يـبـعـث المــــطــــر
وكـيـف تـنشـج المـزاريب إذا انـهـمـر
وكـيـف يـشـعر الوحيد فيه بالضياع
بلا انـتـهـاء كالـدم المــراق، كالجياع
كالحب، كالأطفال كالموتى ـ هو المطر
وأما غريب على الخليج التي تصور معاناة السياب الحقيقية مع المرض، ويرجّح أنها آخر ما كتبه من شعر، فتشف عن رؤية تمور بشوق عارم لوطنه العراق وخشيته الموت بعيدًا عن أرض هذا الوطن، وهي مثال لشعر الاغتراب في الأدب العربي. يقول في مقطع منها:
ليت السفائن لا تقاضي راكبيها عن ســـفــــار
أو ليت أن الأرض كالأفــق الـعـريض بِلا بِـحَــار
ما زلت أحــسـب يا نـقـود، أعــدكـن وأسـتـزيـــد
ما زلت أنقص، يا نقود، بكن من مدد اغترابي
مــا زلـت أوقــد بالـتـمـاعـتـكـن نـافــذتـي وبـابي
في الضفة الأخرى هناك فـحـدثيني يا نــقـود
متى أعود، متى أعود
واحسرتاه… فلن أعود إلى العراق
وشعر السياب فيه جزالة وصحة في التراكيب ومحافظة على الوزن، فهو مع ريادته للتجديد في الشكل لم يترك الوزن الشعري أو يتحرر من القافية: وكان ذلك من أسباب فحولته بين الشعراء المحدثين.
ريادة الشعر الحر
قام بعض رواد الشعر في العراق ومنهم السيّاب بمحاولات جادّة للتخلص من رتابة القافية في الشعر العربي، فقد تأثر السيّاب بالشعر الإنجليزي ويشاركه بذلك البياتي ونازك الملائكة، وأرادوا نقل تلك الحرية التي شاهدوها في الشعر الأجنبي إلى الشعر العربي، وفي الواقع كانت هناك محاولات قبل هؤلاء الثلاثة للتغيير، ولكنها كانت مجرد استطراف، وأما هؤلاء الثلاثة فقد كانت محاولاتهم جادّة، وتتخذ من هذا التغيير مذهبًا تدافع عنه وتنافح من أجله، «وإنما الذي يميّز هذه الحركة عن كل ما سبقها أن اعتمادها للشكل الشعري الجديد أصبح مذهبًا لا استطرافًا، وأن إيمانها بقيمة هذا التحول كان شموليًّا لا محدودًا، وأن أفرادها في حماستهم لهذا الكشف الجديد رأوا وما زالوا يرون – عدا استثناءات قليلة – أن هذا الشكل يصلح دون ما عداه وعاء لجمع التجربة الإنسانية، إذا أريد التعبير عنها بالشعر.» إلا أنه وقع كلام بين الباحثين في تحديد الرائد الأول للشعر الحديث، فالمعروف أن هناك نزاعًا بين السيّاب ونازك الملائكة على الريادة.
ترجماته
كان السيّاب يجيد اللغة الإنجليزية، ولذا ساهم مساهمة فعّالة في ترجمة الكثير من الأعمال العالمية لأدباء العالم، وممن ترجم لهم السيّاب الإسباني فدريكو جارسيا لوركا والأمريكي إزرا باوند والهندي طاغور والتركي ناظم حكمت والإيطالي أرتورو جيوفاني والبريطانيان تي إس إليوت وإديث سيتويل ومن تشيلي بابلو نيرودا.
وقد أصدر السيّاب مجموعة ترجماته لأول مرة عام 1955 في كتاب أسماه: (قصائد مختارة من الشعر العالمي الحديث).
وفاته
وفي سنة 1961 بدأت صحة السياب بالتدهور، حيث بدأ يشعر بثقل في الحركة وأخذ الألم يزداد في أسفل ظهره، ثم ظهرت بعد ذلك حالة الضمور في جسده وقدميه، وظل يتنقل بين بغداد وبيروت وباريس ولندن للعلاج دون فائدة.
أخيرًا ذهب إلى الكويت لتلقي العلاج في المستشفى الأميري في دولة الكويت، حيث قامت هذه المستشفى برعايته وأنفقت عليه خلال مدة علاجه. فتوفي بالمستشفى هناك في 24 كانون الأول/ديسمبر 1964 عن 38 عامًا، ونُقل جثمانه إلى البصرة وعاد إلى قرية (جيكور) في يوم من أيام الشتاء الباردة الممطرة. وقد شيّعه عدد قليل من أهله وأبناء محلته، ودفن في مقبرة الحسن البصري في الزبير .
من آثار السيّاب المطبوعة:
أزهار ذابلة (شعر)، أساطير (شعر)، المومس العمياء (ملحمة شعرية)، حفار القبور (قصيدة طويلة)، الأسلحة والأطفال (قصيدة طويلة)، مختارات من الشعر العالمي الحديث (قصائد مترجمة)، أنشودة المطر (شعر)، المعبد الغريق (شعر)، منزل الأقنان (شعر)، شناشيل ابنة الجلبي (شعر)، ديوان بجزأين (إصدار دار العودة).
أما آثاره المخطوطة فهي:
زئير العاصفة (شعر)، قلب آسيا (ملحمة شعرية)، القيامة الصغرى (ملحمة شعرية)، من شعر ناظم حكمت (تراجم)، قصص قصيدة ونماذج بشرية، مقالات وبحوث مترجمة عن الإنكليزية منها السياسية والأدبية.. مقالات وردود نشرها في مجلة الآداب… شعره الأخير بعد سفره إلى الكويت ولم يطبع في ديوانه الأخير (شناشيل ابنة الجلبي).

————————–

*رئيسة القسم الثقافي في “الدنيا نيوز”