انهيار وطن( 4) حتى المؤسسات غير الرسمية تداعت أيضاً
بقلم : د. غسان الخالد*
أود اولا القول اني استخدم هذا المصطلح للإشارة إلى غير الحكومية، لكنها لا تنفي عنها صفة الرسمية الا لجهة توزعها على مختلف القطاعات الاقتصادية والمهنية باختلاف المهن، والعمالية، علما أن هذه المؤسسات هي رسمية لجهة الترخيص القانوني التي تحصل عليه من السلطات في البلد التي توجد فيه.
ثانيا أود الإشارة إلى أن هذه المؤسسات غالبا ما يطلق عليها في الغرب صفة المجتمع المدني. أما في الدول التي كانت تسمى العالم الثالث، فغالباً ما يطلق عليها صفة المجتمع الاهلي. ويعود ذلك إلى أن معظم هذه الجمعيات، أن لم تكن كلها، تسودها السمات الطائفيةوالمذهبية وحتي العائلية. من هنا لا يمكن أن نطلق عليها صفة المجتمع المدني الذي عادة ما يتكون من مجموعات يربطها الفكر ووحدة الهدف انطلاقا من الفكر، وليس من الانتماءات الطائفية والعائلية. كما أنه غالبا ما ينظر إلى المجتمع المدني، كما لو كان قوة إيجابية متقدمة من حيث البديهة، وتتمتع في الوقت ذاته بقوة تمثيل من وجهة النظر الشعبية، وهو ما ينبغي أن يترافق مع وعي وجود هذه المنظمات، ذلك أن وعي الوجود يرتب وعي الهدف وبالتالي وعي العمل لتحقيق الهدف. هذا بالشكل العام. فماذا عن لبنان.
انطلاقاً مما سبق، وبناء عليه، يمكن القول إن لبنان من أكثر دول العالم غنى بوجود المجتمع المدني من حيث الشكل لا من حيث المضمون. وإذا ما أدركنا أن المجتمع المدني يضم الاتحادات المهنية والنقابات، والجمعيات الخيرية، وتلك الناشطة في إطار الحركة النسائية، إضافة إلى المنظمات غير الحكومية التي كجمعيات حقوق الإنسان، وأحزاب البيئة، او كما يسمى في الغرب بحزب الخضر، ومراكز الفكر والحركات الاجتماعية، وكل ما يمكن أن يدخل في هذا المجال، وهو ما يمكن ملاحظته وبسهولة مطلقة.
هنا لا بد من القول إن قانون تنظيم الجمعيات والاحزاب المعتمد في لبنان، هو قانون الجمعيات الموروث من السلطة العثمانية. وان طرأ عليه بعض التعديلات الشكلية، فلا يعني ابدا بالضرورة انه تم تحديث هذا القانون، مع الاعتقاد بأنه لن يتم تحديثه. فهو كما آخر إحصاء أجرته الدولة اللبنانية عن سكانها عام ١٩٣٢، اي بعيد إنشاء لبنان بقليل. ويمكن للمتابع أن يلاحظ الجريدة الرسمية وعدد الروابط العائلية التي تصدر في كل عدد، ليدرك انه لم تبق عائلة واحدة في لبنان الا وأنشأت رابطة، وليس بالضرورة أن يكون كل أفراد العائلة منتمون إليها أو موافقون على إنشائها. يكفي فقط أن يتوفر العدد اللازم الذي يفرضه القانون، مع توفر الدعم السياسي، إذ غالبا ما تنشأ الروابط العائلية لهدف سياسي قبل كل شيء. علما أن بعض الروابط العائلية تفرض مرشحها على لائحة هذا الفريق السياسي أو ذاك.
ما قيل عن الروابط العائلية، يصح أيضا على الجمعيات الخيرية، وبعضها له موازنة في الحكومة، او في الحكومات المتعاقبة. وبناء عليه تصبح مسألة تمويل الجمعيات أو منظمات المجتمع المدني (اصطلاحا)، والبحث في التمويل مسألة مشروعة، لأن التمويل لا يكون إلا لتحقيق أهداف يبغيها الممول. ولعل التمويل هو السبب المباشر لقابلية انقسام هذه الجمعيات على نفسها بعد فترة بسيطة كافية لمعرفة مصادر التمويل، وكافية لمعرفة كيفية الوصول إلى ممول أو أكثر. على اية حال ان ظاهرة قابلية الانقسام لدى الجمعيات الخيرية أو حتى أحيانآ الروابط العائلية، هي ظاهرة موروثة من قابلية الانقسام القبلي أو العشائري في المجتمع العربي.
هكذا وإضافة إلى العدد الهائل من الجمعيات الخيرية والروابط العائلية، وقعنا في لبنان على كم هائل من الروابط المهنية. نذكر على سبيل المثال لا الحصر، النقابات المهنية الموزعة وفق المحافظات، كنقابات المهندسين، والأطباء، والمحامين. وهو ما ينطبق على روابط المعلمين الموزعة بين رابطة التعليم الأساسي ورابطة التعليم الثانوي ورابطة الأساتذة المتفرغين في الجامعة اللبنانية. وأيضاً وأيضاً، هكذا نقع على رابطة العاملين في الإدارة العامة، كما رابطة الموظفين في الجامعة اللبنانية. نحن أمام عشرات الروابط المهنية، كما أمام عشرات الروابط العمالية. وجميعها كان لديه قابلية القسمة على اثنتين أو أكثر.
سياق التغيير المستجد.
لا اقصد بالضرورة أن يكون التغيير إيجابياً، وهو طبعآ ليس إيجابية اقله لجهة الدور الذي اضطلعت به الحركات النقابية والاتحاد العمالي العام قبل الطائف. فعلى الرغم من العدد المحدود من الاتحادات المهنية المشكل للاتحاد العمالي العام، كما العدد المحدود للروابط المهنية، ما قبل الطائف، لكن يمكن القول إن مرحلة ذهبية قد عاشتها، وخصوصا في ستينيات وسبعينات القرن الماضي،حيث شكلت الروابط الطلابية مثلا حركة نضالية لم تكن مهمة فحسب، بل وضعتها مع أهم الحركات الطلابية في العالم، وأخص هنا بالذكر الحركة الطلابية في فرنسا كما في الولايات المتحدة الأمريكية. كما شكلت رابطة الأساتذة في بداية سبعينات القرن الماضي، حركة احتجاجية بالغة الأهمية، أدت إلى صرف ما يقارب من ثلاثمائة معلم في حكومة صائب سلام، وبالطبع وكما اذكر فقد عادت الحكومة عن قرار الصرف.
ما يقال عن هذه الروابط، يصح القول فيه أيضآ عن الاتحاد العمالي العام قبل الطائف. والجميع يذكر أنه عندما كان يدعو إلى إضراب ما عن العمل، او إلى تظاهرة ما، بغية تحقيق مطالب أقل ما يقال فيها أنها تهم الشريحة الأكبر من الشعب، ممن كان يطلق عليهم الطبقة الوسطى وما دون، وانا اقصد هنا معيشيا وليس تصنيفا طبقيا،فما الذي تغير بعد الطائف؟
الحقيقة التي لا مفر منها هو أن تحالف أمراء الحرب في لبنان، مع البرجوازية الحريرية قد شكل نقطة انطلاق جديرة بالاهتمام وبالاهمية لجهة تفريغ هذه الروابط المهنية من مضمونها. ذلك أنه ومن خلال رؤية قصيرة النظر، ومبنية للأسف الشديد على مصالح شخصية أحيانآ، أكانت هذه المصالح فردية ام جماعية تهم هذا الفريق السياسي أو ذاك. وربما يمكن لمن يرغب بمتابعة هذا الموضوع، كما يمكن لمن عايشه، أن يلاحظ عدد الروابط المهنية المنشأة مع أول حكومة حريرية، ومع اول وزير عمل كان ينتمي لحزب من أحزاب الحركة الوطنية كما كانت تعرف. ثم كرت حبات المسبحة مع وزير آخر ينتمي للفريق ذاته. وبدأت الأمور تأخذ مناح مختلفة بعيد منتصف التسعينات وحتى الآن. إذ يمكن لنا تعداد العشرات من الروابط المهنية في مختلف المجالات وكأن تشكيل هذه الروابط إنما هو إرضاء لبعض المحسوبيات السياسية، في ما يشبه توزيع جاه على الاتباع.
حتى وعندما فقد الاتحاد العمالي العام بعضاً، او الكثير من دوره، ولأسباب مصالحية بحتة، شخصية إلى حد ما كما تبين لاحقا، أنشأت على ضفافه، او ولد من رحمه ما يسمى هيئة التنسيق النقابية، وكان بطلاها اثنان من قياديي الحركات المطلبية، وخصوصا التعليمية، وقد رفعت هذه الهيئة سقف مطالبها إلى درجة تصورها البعض أنها باتت كل شيء، وأنها هي الآمرة الناهية، ليتبين لاحقاً حقيقة رفع سقف المطالب كما رفع مستوى الخطاب عندهما. إذ وعد كلاهما بترشيحه على لائحة ما في الانتخابات النيابية، وقد ترشح أحدهما على لائحة المستقبل في طرابلس. أما الثاني فلم ينل هذا الشرف الرفيع فاكتفى بمنصب في الحزب الذي ينتمي إليه. وبالمناسبة فإن هذين الشخصين، اللذين برزا في ما سمي هيئة التنسيق النقابية هما من البلدة ذاتها. وها نحن الآن نعرف كيف ماتت هذه الهيئة المولودة من رحم الاتحاد العمالي العام، ماتت وهي لا تزال في مرحلة الجنين،واغلب الظن انها ولدت أو تم استيلادها بفعل متعمد من السلطة السياسية. كيف لا، ونحن نرى بأم العين كيفية الانتخابات في الروابط المهنية والعمالية؟.وهل ثمة انتخابات تجري بعيدآ عن المحاصصة السياسية لأهل السلطة حتى وهم متنازعون ومختلفون؟. يمكن للمراقب أن يعرف نتيجة أية انتخابات مهنية مهما كان نوعها مسبقا من خلال المحاصصة الطائفية/السياسية/ بين أهل السلطة،لدرجة ان الترشيح أحيانآ بات ينظر إليه لزوم ما لا يلزم. هو ما يجري في كل النقابات المهنية من رابطة الأساتذة المتفرغين في الجامعة اللبنانية، إلى الاتحاد العمالي العام ومتفرعاته. هكذا عمدت السلطة السياسية ما بعد الطائف إلى تفريغ الحركات النقابية من مضمونها، تفريعا أو تقاسمم حصص، ومع الخلخلة البنيوية لهذه الروابط وللاتحاد العمالي العام، من قبل السلطة السياسية، انهارت هذه الروابط وهو أمر طبيعي عندما تحكم البرجوازية المتعارضة اصلا لمفهوم أو مع مفهوم وجود الروابط المهنية. وانهيار هذه الروابط سيشكل مؤشراً على انهيار الدولة. أليس ما نشهده الأن، وفي ظل غياب أي دور لهذه الروابط المنهارة، هو انهيار للدولة وبالتالي للكيان؟.